المترجم |
بدءاً، استهل حديثي بالاشارة الى بعض الملاحظات العامة حول الموضوع الذي نود تقديمه اليوم. وتشمل النظرات التي نعمل على عرض خطوطها العامة هنا على تلك النظرة الخاصة بتجربة الثورة العمالية في الاتحاد السوفيتي التي لاتنبع من تقاليد اليسار الراديكالي؛ والتي تتطلب منا، على هذا الاساس، جهوداً حثيثة وكبيرة لتعميمها وترسيخها. ويصح ذلك، على وجه الخصوص، لأن أؤلئك الذين شرعوا بتناول التجربة السوفيتية من وجهة نظر راديكالية قد تأثروا، عموماً، بأشكال النقد القائمة عادة والتي طرحتها الاتجاهات المختلفة لليسار الراديكالي. ان لمناظراتنا اختلافات جدية واساسية مع مثل هذه التفسيرات. لذا، يجب علينا، باستمرار، بغية شرحها بوضوح اكبر، تبيان التمايزات بينها وبين الافكار الراديكالية الراهنة. والاهم من ذلك، ان اطروحتنا حول الاتحاد السوفيتي ذات صلة مباشرة ببحث الشيوعية العمالية. بيد ان هذه الاطروحات، برأينا، هي استنتاجات بوسع ميل ينتمي الى الشيوعية العمالية ان يستخلصها حول تجربة الاتحاد السوفيتي على اساس نظراتها العامة (اي نظرات الشيوعية العمالية- م). بالمناسبة، علينا ان نُذَكِرْ بأن ما يبغي تعبير "الشيوعية العمالية" نقله ليس شيئاً سوى التأكيد على الاصل الاجتماعي للماركسية والشيوعية، أي الطبقة العاملة.
لقد اكتسبت الشيوعية، ولسوء الحظ، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، سمات مدرسة فكرية في الوقت الذي هي، عملياً في جزء مهم من تاريخها، ومن وجهة نظر الماركسية، حركة اجتماعية، حركة طبقة إجتماعية تهدف الى إحداث تغيرات فعلية في المجتمع. إن نقطة إنطلاقنا ألإجتماعية الطبقية ليست أمراً يجب على المرء ان يراعيه فحسب عند انتقاله من النظرية الماركسية الى الممارسة الحزبية والسياسية، بل انها ايضاً مفهوم يجب ان يصبح جزءاً متكاملاً من رؤيتنا النظرية الراهنة حول القضايا المختلفة. ففي مايسمى بالماركسية الراديكالية المحدودة (اي المعدة لفئة قليلة ومفهومة من قبلها- م)، لا تتعدى الطبقة العاملة سوى مقولة مجردة، كذلك الحال مع مقولات مثل الاشتراكية والصراع الطبقي. علىاية حال، في الماركسية الواقعية، أي في الشيوعية العمالية، تشير هذه المقولات الى علاقات وظواهر اجتماعية تاريخية ملموسة. يمثل نقدنا لتجربة ثورة العمال في روسيا نقداً لعملية تاريخية حفزتها وصعدتها قوى اجتماعية حية ونشيطة. لذا، يجب، كخطوة أولى، تناول هذه الظاهرة وتقييمها وفقاً لحركتها الموضوعية وحركة القوى الاجتماعية القائمة في تلك المرحلة. ان هذا هو سر احساسنا بوجود اختلافات جدية مع ما تعارف عليه عالمياً كنقدٍ راديكالي للتجربة السوفيتية. لايقتفي نقدنا خطى التقاليد الراهنة لليسار الراديكالي الذي تخيم عليه الاوهام؛ إذ الى الحد الذي ينجح فيه اليسار بالاشارة الى التناقضات بين التجربة الفعلية وبين عقائده المتخيلة مسبقاً؛ الى الحد الذي ينجح في التنكر للسمة البروليتارية للاشكال المختلفة للثورة الروسية، فانه بالدرجة ذاتها يصبح أكثر قرباً من الماركسية والارثوذكسية الماركسية، او يقدم نقداً اكثر "عمقاً" للموضوع المتنازع حوله. ليس بوسع المرء، من وجهة نظر الشيوعية العمالية، ان يتناول التجربة السوفيتية بنفس الاستسهال الذي يتناول به النقاد "الراديكاليون" الثورة البلشفية داخل الشيوعية اليسارية واليسار الجديد وغيرهم. ان هذه التجربة هي نتاج ممارسة طبقة مليونية؛ طبقة شرعت بهذه التجربة إيماناً منها بانها تناضل من اجل مصالحها الطبقية التحررية؛ وسَعَتْ اكثر احزاب الطبقة العاملة ومنظماتها تقدمية، ولعدة عقود، إرساء هذه الثورة. كما كانت الثورة التي تركت آثارها لاعلى مصير الحركة العمالية فحسب، بل على مجمل حركة العالم المعاصر. لذا، لايمكن الحكم على هذه الثورة، ببساطة، بمعيار صفاء ونقاء قادتها الايديولوجي وارثوذكسيتهم النظرية، كما لو ان النقص في هذا الجانب يكفي لمحو هذه التجربة برمتها.
لايمكن إحباط الممارسة الطبقية للطبقة العاملة ومحوها الا عبر قوى اجتماعية عملاقة للطبقات الاخرى. كما لايمكن لغياب الصفاء والنقاء النظري والتعارض مع النماذج والاحكام المسبقة ان يفسر، بذاته، اية محاولة لانكار مثل هذه التجربة الاجتماعية الموضوعية الهائلة. فما على المرء ان يبينه هو مايلي: تحت اية ظروف معينة، وعبر اية قوى اجتماعية ومادية تعرضت الانتفاضة العارمة للطبقة العاملة الروسية للهزيمة في المطاف الاخير؟
وعليه، رغم ان نقدنا للتجربة السوفيتية قد لايبدوا "راديكالياً" بمافيه الكفاية بالنسبة لليسار الراديكالي الحالي، تمثل نظراتنا، برأينا، أكثر اشكال النقد راديكالية مقارنة بتلك التي تناولت التجربة السوفيتية. في الحقيقة، ان احد المحاور الاساسية في نظراتنا هي انه لم تمثل اشكال النقد الراديكالية لحد الان شيئاً سوى اختزالية (اختزال الظاهرة الى احد العوامل- م) مدرسية من جهة وديمقراطية راديكالية من جهة اخرى. في الواقع لايمكن للنقد الراديكالي الحقيقي ان يكون سوى نقدٍ بروليتاري اشتراكي. انه النقد الذي نهدف لتقديم خطوطه الاساسية العامة هنا اليوم.
ننوي، بعرضنا الاطروحات الراهنة، تقديم نقد اشتراكي للتجربة السوفيتية. اؤكد على كلمة اشتراكي طالما ان مجمل اشكال النقد السابقة لم تكن، كما اعتقد، في اغلب اقسامها اشتراكية، بل انها وفي جوهرها لاتتعدى ان تكون نقداً ديمقراطياً تم عرضه بطرق مختلفة ولكن باشكال راديكالية. هناك العديد من القضايا التي تمثل الاساس التحليلي لاشكال النقد هذه مثل: احراف الحزب، النظرات الفكرية والايديولوجية الخاطئة، ضعف الحزب، تركيبة الدولة بعد الثورة وتعامل الحكومة السوفيتية مع القضايا الدولية وغيرها. ولكن ماهو ملح ان نفهم ان حتى اكثر اشكال النقد الديمقراطي راديكالية ليست فقط عاجزة عن ايجاد اجوبة على اكثر المعضلات جدلاً في المناقشات حول التجربة السوفيتية الاوهي لماذا لم يٌبنى المجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي؟ لماذا لم يتم بناء الاقتصاد والعلاقات الانتاجية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي؟ بالتالي، ليس بوسعهم التوصل الى نقد مادي للقضايا المذكورة عينها التي يتطرقون اليها. ويبدو، عادة، في أشكال النقد هذه، كما لو ان الانحرافات، مثلها مثل الامراض العضوية، محمولة في مكان ما، ومن ثم تتفاقم، وفي اخر المطاف تفسد وتحطم كل شيء. ولكن في الحقيقة، تكمن مجمل فضائل المادية التاريخية والمنجزات المنهجية للماركسية في قدرتها على تعرية وكشف الاسس المادية للتطورات التي تحدث في البنى الفوقية، أي التطورات الفكرية والسياسية والقانونية والادارية و...الخ، في المجتمع. اما حين تعجز نظرات ما في ان تدل على الاسس المادية والاقتصادية لمثل هذه التطورات، فمن الطبيعي ان يصبح تحليلها لتلك التطورات ذاتها ناقصاً ومبتوراً.
إن المسالة المحورية في النقد الاشتراكي هي كيف تطور الاقتصاد الاشتراكي بعد الثورة. وتمثل هذه المسألة جوهر الماركسية؛ كما يمثل نبذها، بالنسبة لنا، نظرة غير ماركسية. ويعادل رفض مسألة التحويل الاقتصادي للمجتمع بعد الثورة، كمسألة يستوجب دراستها وتقييمها على ضوء علاقتها بالتجربة السوفيتية، اهمال القضية او التنكر لها تماماً. لماذا؟ أولاً: ان الثورة الاشتراكية هي، اساساً، ثورة اقتصادية، وعلى هذا الاساس فقط يمكن ان تكون ثورة إجتماعية. في الحقيقة، لقد تردت مسألة الثورة الاقتصادية في ماركسية هذا العصر الى موضوعة في طي النسيان. كما قُلِصَتْ الماركسية، في الواقع، من نظرية للثورة الاجتماعية الى (علم) الاستيلاء على السلطة السياسية. ان هذه، بذاتها، حصيلة الاستخدام المتعاظم ل"الماركسية" من قبل الفئات غير البروليتارية في المجتمع كستار لمصالحها غير الثورية وغير الاشتراكية. يتمثل جوهر الثورة الاجتماعية في التحويل الثوري للاقتصاد، لابالمعنى الكمي، أي التغيير في كمية الانتاج، بل بالمعنى الذي استخدمه ماركس، اي تحويل علاقات الانتاج الاجتماعية، والتي تعمل، على وجه التحديد، في إحداث تطور وارتقاء سريع في القوى الانتاجية للمجتمع. إن هذا هو جوهر النظرية الماركسية واساس الثورية الراسخة للماركسية. ذلك ان قضايا مثل الديمقراطية، إلغاء التمايزات القانونية، السياسية، الثقافية، وحتى الاقتصادية بين الافراد والفئات الاجتماعية وحتى الامم ليس فيها فكرة خلاقة جديدة تخص الماركسية. فما تلك سوى مُثل نادى بها الانسان من غابر الازمنة. ولكن ما يمنح الماركسية تلك المكانة والاهمية الخاصة هو ربطها لتلك المُثل وتلك المطاليب باسقاط نظام اقتصادي محدد، وبالعلاقات الانتاجية القائمة التي تضع الطبقة العاملة في مكانة محددة من الانتاج الاجتماعي. وتُعتبر الاشتراكية والشيوعية، ذاتهما، ثمرة صراع هذه الطبقة ضد هذه العلاقات الاستغلالية الراهنة والمبنية على اساس الطبقات في المجتمع القائم، اي الرأسمالي، وسيبلغ هذا الصراع غايته، فقط، بالغاء الملكية البرجوازية وارساء الملكية العامة لوسائل الانتاج. فاذا ما انتزعنا ذلك من الماركسية، لن يبقى فيها اي شيء خلاق وجديد خاص بها. ان الماركسية هي ذلك التيار الذي بمقدوره، للاجابة على هذه الاهداف الداعية لمساواة الانسان وتحرره، طرح سبيلها الواقعي، اي قلب الرأسمالية بوصفها نظاماً اقتصادياً وإرساء الاشتراكية بوصفها نظاماً اقتصادياً قبل أي شيء آخر، وان تشير وترشد الى القوة الطبقية والاجتماعية الواقعية لهذا التحول في ذات المجتمع القائم. وقد أثبتت الماركسية انه في ظل غياب مثل هذا التغيير في الاساس الاقتصادي للمجتمع، سوف تفتقد هذه المُثل الاسس المادية لتحقيقها الجدي. لذا، من الواضح، من وجهة نظر الطبقة العاملة، ومن وجهة نظر التحويل الثوري للمجتمع، ان معيار تقييم اية ثورة اشتراكية "ومن ضمنها ثورة اكتوبر" هو مدى نجاحها في انجاز هذا الهدف. بعبارة اخرى، يتحتم تقييم هزيمة الثورة بمعيار نجاحها ذاته، اي مسالة قلب النظام الراسمالي بوصفه نظاماً انتاجياً.
لذا، يمكن، بل ويجب ان تتركز مناقشة الثورة الروسية ونتائجها حول هذا السؤال:
كيف، وتحت اي ظروف، لم يؤد استيلاء العمال على السلطة السياسية الى التحويل الجذري للاساس الراسمالي للمجتمع؟ ويمثل هذا جوهر النقد الاشتراكي والبروليتاري لتجربة الثورة الروسية بوصفها ثورة عمالية.
وهكذا، نؤكد، بدءاً، على التمايز العميق (وبرأينا، الطبقي) القائم بين نظراتنا وبين تلك التي ترتكن في تحليلاتها على "استحالة" التحويل الاقتصادي للمجتمع الروسي بعد استيلاء العمال على السلطة، سواء أصاغتها على شكل "ضرورة الثورة العالمية" أو" تخلف روسيا" وغيرها. ذلك ان مثل هذه النظرات تنكر، وبصورة اساسية، مبرر وفلسفة وجود ثورة الطبقة العاملة في روسيا. ثانياً، ان التحويل الاقتصادي لروسيا هي المسالة المحورية في النقد الاشتراكي؛ وذلك لانه بمقدور تحليل هذه المسالة تفسير علة التفسخ والانحلال السياسي والايديولوجي للثورة (مثل بيروقراطية جهاز الدولة، تشوه التوجه والممارسة الطبقية للحزب، الاشكالات والانحرافات في السياسات المحلية والدولية للدولة السوفيتية والارتدادات الثقافية والاخلاقية التي اعقبت التقدم الاولي للثورة في هذه الميادين... الخ)
برأينا، يمكن تحليل الاسباب التي تقف وراء هذه التغيرات السياسية والايديولوجية المستهجنة بصورة صائبة فقط اذا ما بحث المرء العوامل التي وقفت حجر عثرة امام التحويل الثوري للعلاقات الاقتصادية في روسيا. ان استيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسية وصيانتها هي الخطوة الاولى في طريق الثورة البروليتارية. لكن يجب على الطبقة العاملة حال استيلائها على هذه السلطة، كما يؤكد انجلز، ان تستخدمها في الاطاحة بأعدائها الرأسماليين، وان تنجز تلك الثورة الاقتصادية التي بدونها فان النصر كله سينتهي حتماً بهزيمة الطبقة العاملة وتعرضها الى مذبحة شبيهة بتلك التي تعرضت لها في كومونة باريس. (ف. أنجلز، في ذكرى وفاة ماركس، في الفوضوية والسنديكالية الفوضوية، موسكو، ١٩٧٤، ص١٧٣، التأكيد مني).
وكما نلاحظ، فان هذا يعتبر مبدءاً أولياً وواضحاً في الماركسية. وبالطبع، في الماركسية التي لم تشوهها وتحرفها الطبقات غير البروليتارية والتي لم تُغَلَفْ مبادئها الجلية والحية في التفسيرات الغامضة، عصية الفهم وعديمة المحتوى لليسار غير البروليتاري. ان كل ذلك واضح جداً، فاذا لم يتمكن العمال من تحويل الاساس الاقتصادي للمجتمع بعد الاستيلاء على السلطة، ستؤول ثورتهم الى الفشل، كما تؤدي، في آخر المطاف، الى تعرض الطبقة العاملة نفسها لمجازر. كما يؤكد انجلز على ان مجرى الاحداث في كومونة باريس قد اثبت ذلك عملياً. ان ما حصل في روسيا، في الواقع، هو نفس ماقاله انجلز في الجملة اعلاه. اما الفرق الوحيد فيتمثل بكون المجزرة التي تعرض لها العمال لم تقم بها قوات العدو بشكل سافر وفي يوم محدد، كما لم تحدث عبر احتلال مدينة معينة، بل حدثت عبر عملية طويلة ومعقدة وعلى جبهات مختلفة. ولم يمنع ذلك من ان تكون النتيجة ذاتها، أي هزيمة الطبقة العاملة والتنكيل بها بوحشية. ولم تقل ابعاد هذه الهزيمة والمجازر عما كان عليه الحال في كومونة باريس. ان ما نشهده اليوم هو نتيجة مباشرة لاخفاق البروليتاريا المنتصرة في روسيا في تنفيذ التحويل الثوري اللازم للاساس الاقتصادي للمجتمع واتمام ثورتها الاقتصادية؛ حيث ان التفسخ السياسي والايديولوجي والاداري في الثورة الروسية كان ثمرة هذا الاخفاق. ان هذه مسألة حاسمة في رؤيتنا. كما انها تمثل الدرس الاساسي الذي تعظنا به ثورة اكتوبر. انها، في الوقت ذاته، نقطة إنطلاق النقد الاشتراكي للتجربة السوفيتية.
أود ان أضيف ان لنا اختلافات منهجية جدية مع تلك النظرات التي تبدأ، عند دراستها للتجربة السوفيتية، من ظهور البيروقراطية، التفسخ السياسي والنظري للحزب وبعض المشاهدات الاخرى المتعلقة بتطور البنى الفوقية للمجتمع والثورة. وفق رؤيتنا، تعد تلك المعضلات والمشاهدات نتاج توقف الثورة الروسية وتفسخها وليست أسباباً لهاً. ان هذه المشاهدات هي جزء من الواقع الذي يجب تفسيره وليست اداة تحليله. ويعادل تفسير هزيمة الثورة بهذه النتائج تفسير النتائج بالنتائج. كما انها لاتماثل سوى محاولة تعليل المرض باعراضه وآثاره.
ان ماذكرته حتى الان يجب ان يوضح نقطة إنطلاقنا الاساسية في هذه المجادلة. آن الاوان لتفصيل هذه الاطروحات بصورة اكبر.
لقد تبلورت ثورة اكتوبر في وضعية محددة من الظروف الإجتماعية. لقد كانت لحظة من التاريخ ومن مجرى حركة المجتمع الراسمالي بصورة عامة وحركة المجتمع الروسي بصورة خاصة. وتعتبر عملية تفسير ثورة اكتوبر من خلال اطار محدد للحركة العمالية والشيوعية، أي كمرحلة من تطور هذه الحركة أو كنتيجة حتمية لها، محاولة مبتورة وناقصة. ينبغي النظر الى كل من عملية صياغة الثورة واندلاعها والى عملية انحطاطها اللاحق من خلال المجتمع الروسي وتاريخه المعاصر الذي لايتضمن العنصر الذاتي والفعال للثورة فحسب، بل مجمل وضعية العلاقات الاجتماعية والطبقية. بكلمة أخرى، ينبغي ان لانضع صوب اعيننا الطبقة العاملة وأهدافها وآمالها فقط، بل مكانة ومطاليب ومسار حركة مجمل الطبقات الاساسية في المجتمع أيضاً. فلو كانت الثورة الاشتراكية في روسيا قد انتصرت، وتمكنت من إقامة مجتمع إشتراكي جديد، كنا سنرى حينذاك انتقالة رئيسية في تاريخ التطور الاجتماعي للمجتمع الروسي؛ ولأُجْتُثَتْ وضعية اجتماعية محددة بمجمل أسسها ومساراتها وقواها المادية؛ ولتشكلت وضعية جديدة على اساس دينامية جديدة وغايات واهداف واولويات جديدة. ولكن وضعت هزيمة الثورة هذه الوضعية في سياق التطورات التاريخية لمجتمع ماقبل الثورة وارتباطاً بها. لذا، من الواضح إستحالة طرح المسألة بالبساطة التالية: "انتصار الطبقة العاملة ام هزيمتها". لقد كانت ثورة اكتوبر حدثاً تاريخياً عظيماً. استلزم انتصارها، دون شك، حقبة تاريخية. ولكن يجب البحث عن هزيمتها في مكانتها التاريخية من مسار حركة المجتمع القديم. وبكلمة اخرى، مهما يكن من امر، تشغل الثورة العمالية المهزومة مرحلة وظرفاً تاريخياً بالغ الاهمية من تاريخ روسيا الاجتماعي. على أية حال، تعتبر هزيمة الثورة الروسية مرحلة من تطور المجتمع البرجوازي في روسيا.
ان للرؤية الاجتماعية لثورة اكتوبر، أي فهمها من خلال اطار إجتماعي مكانة كبيرة في تحليلنا. سأتناول، لاحقاً، استنتاجات اكثر تحديداً من هذه المسألة. ولكن من الضروري ان اشير هنا، وباختصار، الى اهمية هذا النوع من التناول لفهم المسالة السوفيتية وتحليلها.
إن الثورة، حتى وان كانت بضخامة ثورة اكتوبر، هي حدث في مجتمع. ان المجتمع ظاهرة ضخمة، متشعبة وواسعة تستوجب الثورة وتخلقها وتحدد مداها وتشكل قوانين حركتها. أساساً، بتحليل المجتمع فقط يمكن دراسة الثورة وفهمها. وتبدو هذه المسألة واضحة وبسيطة جداً؛ ولكن أن تأخذ المجتمع بوصفه مرجعاً للعلاقات الاجتماعية لكي تفسر أفعال الناس يمثل هذا حجر الزاوية في الماركسية. وغالباً مايتم إغفال هذه الحقيقة الماركسية البسيطة في تفسيرات الراديكاليين اليساريين للمسألة السوفيتية. فمهما كانت حصيلة الثورة، فانها لاتناسب أهدافها. بل كان حصيلة اثر الثورة على المجتمع الروسي. عندما نتحدث عن الثورة، يجب ان لايفارق ذهننا اننا نتحدث عن أحداث في صلب علاقات إجتماعية معينة وواسعة. فالثورة لاتلغي المجتمع من اجل ان تضع ديناميتها وآليتها المستقلة الخاصة كأساس لحركة المجتمع. بل على العكس، إنها، نفسها، نتاج الديناميات والاليات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، عندما يكتشف أمرء ما، فجأة، طبقة حاكمة جديدة على اساس "البيروقراطية" في الاتحاد السوفيتي، فأنه يعود بالمجتمع الى كونه حصيلة الثورة. ان الثورة، وفقاً للنظرية الماركسية، مرحلة من صراع الطبقات الاجتماعية وتصادمها. ولكن في فهم وإدراك اليسار الراديكالي وغير الاجتماعي وغير المادي، تقوم الثورة بخلق الطبقات الاجتماعية. أو عندما يقوم أمرء ما، وفق رغبته، بتغيير التضاد الطبقي الاساسي في صبيحة ثورة ١٩١٧ الى ذلك الصراع بين البروليتاريا والطبقات الهامشية في المجتمع، فأنه يقوم، بعمله هذا، بإخضاع المجتمع للثورة. أما الثورة، وفقاً للماركسية، فهي إنعكاس للصراع والتصدع الحاصل بين الطبقات الاجتماعية الاساسية القائمة نتيجة العلاقات الانتاجية السائدة في المجتمع. أما بالنسبة لليسار، تتحرك الطبقات الاجتماعية، جيئة وذهاباً، تزول وتتشكل، بفعل إرادة الثورة. بالطبع، ان ثورة اشتراكية ظافرة حولت العلاقات الاقتصادية، ستحوِّل المجتمع أيضاً ومعه الطبقات الاجتماعية. ولكن تنبع كل قدرة الثورة الاشتراكية الخلاقة في نفس تحويل العلاقات الاقتصادية. إن امرءاً يتحدث لا عن ثورة ظافرة، بل عن ثورة غير منجزة، فاشلة ومهزومة، امرءُ يعترف بانه لم يتم أي تحويل ثوري في العلاقات الانتاجية، ليس بوسعه عندها إلغاء المجتمع القائم في تحليله وتفسيره للثورة إستناداً للثورة ذاتها. ان هذا تفسير ذاتي يدير ظهره تماماً لمادية ماركس التاريخية.
تسمح لنا الرؤية الاجتماعية لثورة اكتوبر ان نبقى أمناء كذلك للمادية التاريخية في تفحص دينامية حركة الثورة لا ان نتجاهل العوامل الاجتماعية الحاسمة مثل علاقات الانتاج والتضاد الطبقي الفعلي والتلازم التاريخي لهذه العوامل. بل، على وجه الخصوص، كي نكون قادرين على إدراك خلفية بزوغ الثورة، كما نتتبع، أيضاً في المسار الملموس لتطورها بعد اكتوبر، المعضلات الاجتماعية الاساسية والقضايا الرئيسية للصراع الطبقي والحركة الواقعية للمجتمع. في هذا القسم، يتمثل هدفي في التأكيد على هذه النقاط. وعلى وجه الخصوص، سأتناول مسألة محورية بالنسبة للثورة في روسيا، الا وهي: ماالذي جعل ثورة اكتوبر ممكنة التحقيق، وما الامر الحاسم في صياغة مصيرها النهائي. تتمثل هذه المسألة، برأيي، في المجابهة بين الطبقتين البرجوازية والبروليتارية في روسيا خلال (٤-٥) عقود التي سبقت الثورة والعقد الذي تلا إندلاعها فيما يخص مصير المجتمع الروسي وامكانية تطوره ونموه.
تأثر تاريخ روسيا، بصورة كبيرة، في العقود التي سبقت الثورة، بظهور وتنامي الطبقتين الاجتماعيتين الاساسيتين في المجتمع الراسمالي وهما البروليتاريا والبرجوازية، طبقتان اجتماعيتان وجدتا نفسهما لا في صراع ضد بعضهما البعض فحسب، بل مع مجمل الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة. طبقتان تحدتا روسيا القيصرية المتخلفة، وبقول لينين نصف اقطاعية، وترعرعتا في احضانها. طرحت كلا الطبقتين صورة "روسيا متطورة وحرة وصناعية" بدل الواقع المتخلف القائم. ففي بداية القرن العشرين، كان من الواضح امام اي امرء بأن روسيا ستواجه تحولات جدية. كان من اليقين ان على روسيا ان تدخل عصراً جديداً. وقد اصبح تخلف روسيا الاقتصادي والسياسية والثقافي، إذا ما قورن بالبلدان الاوربية الاخرى، مصدراً لنقد اجتماعي جدي هناك.
بيد ان الذي لعب دوراً كبيراً في التطور اللاحق للمجتمع الروسي كان النقد المتزامن لهذا التخلف من وجهتي نظر طبقيتين متمايزتين. إذ طُرِحَ بديلان امام المجتمع الروسي. بديلان لطبقتين اجتماعيتين متمايزتين ومتعارضتين. كانت الرأسمالية والاشتراكية أفقين اجتماعيين متمايزين لم يُطرحا بصورة مجردة ضد بعضهما البعض، بل بصورة اساسية سوية، وبصورة أكثر جوهرية ضد المجتمع الروسي حينذاك. كما تبغي البرجوازية الروسية قاطبة ان تلحق بركب الحضارة الراسمالية والتي تعرض البرجوازية الاوربية مفاخرمنتجاتها حينذاك بزهو وحبور. فيما تدعو البروليتاريا الروسية، بصورة متعاظمة، تحت تأثير الاشتراكية الديمقراطية الروسية، الى الاشتراكية.
توفر كل الوقائع الاجتماعية في روسيا مثل صلتها بمجتمع البلدان الاوربية، قوتها كدولة استعمارية، قدرتها العسكرية وامكانيتها الاقتصادية، الامكانية التاريخية، موضوعياً، لتحقيق كلا البديلين. ان روسيا المتخلفة، في نهاية القرن التاسع عشر، بوسعها ان تصبح بلداً رأسمالياً او اشتراكياً في القرن العشرين. ذلك ان امكانية التطور الاقتصادي في ظل كلا البديلين امراً وارداً. تحاول القوى الاجتماعية تحريك قواها وحشدها من اجل تحقيق هذه البدائل عادة. تخللت الافاق التاريخية لكلا البديلين مسامات المجتمع الروسي وشكلت اسس الوعي الثوري. من الجدير بالذكر هنا ان نشير الى بعض المسائل:
١- ان الوجود الموضوعي للتخلف الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي والثقافي هو ابرز ألأوجه "المشتركة" التي تشاطر بها ذلك البديلان الطبقيان المتمايزان لفترة طويلة وتم التأكيد عليه. فالاشتراكية والرأسمالية لا يحملان أي شبه وقرابة ببعضهما البعض. ولكن اذا ما كانت العلاقات الاقطاعية والقيصرية والحكم المطلق والجهل هي السمات السائدة للمجتمع، حينذاك يتم إبراز العنصر التحديثي (أي تحديث المجتمع- م) حتماً في كلا البديلين كما يتم التأكيد عليه من قبلهما. إن كل من البروليتاريا والبرجوازية أعداء لهذا التخلف الاقتصادي والسياسي؛ ولاتصبح هذه السمات المشتركة امراً واضحاً للعيان فحسب، بل يتم التأكيد عليها خصوصاً من قبل الحركة الاشتراكية طالما تعتبر الاشتراكية الديمقراطية الروسية، خلافاً للشعبيين، وجود حدٍ من التطور الرأسمالي امراً ضرورياً ومرغوباً لحركة المجتمع صوب الاشتراكية. وتجد الاشتراكية الديمقراطية نفسها عدة مرات، سواء بمجادلاتها السياسية والثقافية، مصطفة مع مناصري البديل البرجوازي. ان الاصطفاف مع مباحث الماركسية الشرعية حول الاقتصاد الروسي وخصوصاً الاصطفاف البارز للمناشفة مع البرجوازية الليبرالية الروسية وكذلك الاعجاب المستمر لقادة الاشتراكية الديمقراطية، ومن ضمنهم البلاشفة، بكونهم أبطال الديمقراطية البرجوازية في روسيا، كل هذه الشواهد هي اثباتات على هذا التأكيد. مع إن اثر هذه الاصطفافات، على الرغم من حتميتها في أوضاع تاريخية معينة وإستحالة القفز فوقها، لاتعني من الناحية العملية سوى إعاقة عملية التمايز التام للافق البروليتاري عن نظيره البرجوازي في المجتمع؛ كما تظهر نتائجه السلبية على المراحل اللاحقة، خصوصاً بعد اكتوبر.
٢- من الواضح ان الاشتراكية الديمقراطية الروسية لم تكن نتاج للتحديث الاقتصادي والاجتماعي في روسيا. ليست نتاج روسيا نفسها أو ظاهرة روسية. على الرغم من ان الشيوعية اليوم، وفي العديد من البلدان، هي حقاً انعكاس مباشر للاصلاحية القومية النابعة من داخلها والتي صاغت طموحاتها على شكل عبارات أُستعيرت من الماركسية. اما في حالة روسيا، فقد كانت الوشائج وثيقة بين الاشتراكية الديمقراطية والمعسكر البروليتاري العالمي؛ كما كانت سماتها الاممية والطبقية واضحة جداً. على اية حال، أعطت الاشتراكية الديمقراطية إطاراً للتحديث القومي والاصلاحية الروسية التي لفّت حولها، بصورة حتمية، كما قنونت في مساراتها نسبة كبيرة من الاحتجاجات الاتية من الفئات البرجوازية الصغيرة. فيما واجهت الاشتراكية الديمقراطية الروسية، إثناء تطورها، باستمرار، حقيقة تشكل وإعادة تشكل الاصلاحية القومية داخل صفوفها، وغدت اتجاها داخل صفوفها. كان المناشفة التجسيد الفعلي والمادي لهذا الميل الاجتماعي في المجتمع الروسي.
لم تكن المنشفية الاطار الوحيد الذي تعبر من خلاله هذه الميول والجماعات عن نفسها. كما لم يقتصر الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية، والصراع بين الاشتراكية والراسمالية، على صراع الاشتراكية الديمقراطية العمالية الروسية مع الممثلين السافرين للبرجوازية وأحزابها السياسية. كما لم يمثل هذاالصراع سوى جزء فقط من الدينامية الداخلية للاشتراكية الديمقراطية نفسها والتي ادت الى حصول عدة انشقاقات وصراعات حول التكتيكات الحاسمة؛ ولم يسلم حتى الحزب البلشفي منها؛ واخيراً برزت بالمجادلات الحاسمة حول آفاق الثورة الروسية. ان مسألة الموقف الذي يجب على الاشتراكية الديمقراطية ان تتخذه من الحكومة الانتقالية الثورية في ثورة ١٩٠٥ وانشقاق البلاشفة والمناشفة، إندلاع الحرب العالمية الاولى والمواقف المختلفة الموجودة داخل الاشتراكية الديمقراطية الروسية، إندلاع ثورة اكتوبر ومواقف الكتل المختلفة داخل الحزب البلشفي نفسه فيما يتعلق بمسار تطور الثورة، كلها تدلل على انعكاس هذا الصراع الطبقي داخل الحزب. ان هذا الصراع موجود، بدرجات متفاوتة، في داخل جميع الاحزاب العمالية. ولكن في حالة روسيا، فأن المسالة الاساسية في هذا الصراع هي تلاقي الآفاق الطبقية الاساسية في مجمل المجتمع الروسي حول مستقبل روسيا وتطورها الاقتصادي والاجتماعي.
٣- وهكذا من الواضح ان تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الروسية وتاريخ الثورية العمالية والشيوعية في روسيا هما، في الوقت ذاته، تاريخ الانفصال عن تاثير الافاق البرجوازية للنزعة القومية والتحديثية الروسية. ان هذا الانفصال الذي استلزمه الاصطفاف التاريخي المشترك مع البرجوازية ضد القيصرية، الاصطفاف لنبذ العلاقات الاقتصادية المتخلفة والمستوى الانتاجي والتقني المتدني للمجتمع الروسي والاصطفاف ضد الاستبداد. لم تنبثق الاشتراكية الديمقراطية الروسية كأداة لتعبير البروليتاريا عن احتجاجها المعادي للرأسمالية فحسب، بل ايضاً كقناة للاحتجاج الجماهيري وتحديث المجتمع. كما لم تكن الاشتراكية الديمقراطية الروسية، بصفتها حركة اجتماعية، ممثلة للاشتراكية والاممية البروليتارية في روسيا فحسب، بل اداة استقطاب لتثوير "المجتمع الروسي". ان هذا التثوير، نفسه، نبعَ، تاريخياً، من رحم الاحتجاج القومي والديمقراطي. فيما لم يترك مجرى تطور المجتمع الروسي واستقطابه الطبقي، بالاضافة الى التطوير الظري والسياسي للماركسية في روسيا، الاشتراكية الديمقراطية على حالها وحوّلها الى عنصر متقدم من الثورة الاجتماعية. ان تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الروسية هو، في الوقت ذاته، تاريخ إنفصال البروليتاريا وافقها عن البرجوازية وافقها. ان لهذه العملية من إلانفصال مراحلها وانعطافاتها التاريخية الحاسمة والتي نحن جميعاً على اطلاع عليها. لقد كان الانفصال عن الناردونيك (الشعبيين) وتوجيه سياط النقد لهم كاشتراكية شعبوية لابروليتارية اساس تشكيل الاشتراكية الديمقراطية الثورية، مجادلات البلاشفة والمناشفة خلال ثورة ١٩٠٥ حول علاقة الطبقة العاملة بالسلطة السياسية في الثورة البرجوازية والموقف الذي يجب ان تتخذه البروليتاريا حيال البرجوازية الليبرالية، مجاادلاتهما حول مواصفات الحزب البروليتاري، تحليلات البلاشفة حول المسالة الزراعية وفهمها للتأثيرات التاريخية لردة ستولبين على البنية الاقتصادية لروسيا، والمسالة الاكثر اهمية هي الموقف الذي اتخذته البلشفية من الحرب العالمية الاولي والتي ادانت فيه الاشتراكية الديمقراطية الثورية، بأكثر الاشكال وضوحاً، القومية والوطنية بوصفها ميول معادية للعمال. ان كل هذه المواقف شكلت المراحل التي فصلت الطبقة العاملة نفسها وافقها عن الافق البرجوازي ووقفت كقوة مستقلة بوجهه. ويعتبر هذا الشكل من الانفصال واسلوبه الجوهر المميز لللينينية. وقد اشرنا الى نفس تلك المسالة حين قلنا سابقاً[١] غابت اللينينية في المجادلات الاقتصادية في الفترة (١٩٢٤-١٩٢٨). بكلمة اخرى، خلافاً للمراحل الاولى، لم يحدث الانفصال الحاسم بين التطلعات البروليتارية والبرجوازية في هذه المرحلة التي هي من اكثر المراحل تحديداً وحسماً في الثورة الروسية، اي في الوقت الذي طُرحت فيه المهمة الاساسية للثورة العمالية، التحويل الثوري للرأسمالية.
ان مانتوخى تأكيده هنا هو ان الصراع الطبقي في روسيا لم يكن، من البدء، صراع قوتين مفصولتين ومتمايزتين (فكرياً، من ناحية الافق السياسي ومن حيث بدائلهما العملية). لم يكن صراع معسكرين متمايزين كلياً من حيث الحدود الفاصلة بينهما حيث يصطفان بوضوح امام بعضهما البعض. وقد تضمن الصراع الطبقي في روسيا عملية طويلة جرى عبرها انفصال البروليتاريا تدريجياً عن القومية والليبرالية والتحديث الصناعي للبرجوازية الروسية. وكما ذكرنا، يعتبر تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الروسية شاهداً على كيفية قيام البروليتاريا الروسية، بقيادة البلاشفة، بتحطيم الاعتقاد المشترك للمعارضة "التحديثية" الروسية، واتخذت وأكتسبت افكارها وتطلعاتها وافاقها المستقلة الخاصة بها حول القضايا الاجتماعية والسياسية، وكيف اصبح الصراع، عبر هذه القضايا، بين هذين البديلين حول التطور المقبل للمجتمع الروسي اكثر بروزاً.
على الرغم من هذا، يكمن جوهر مناظرتنا بان هذا الانفصال قد تم كلياً على الاصعدة الايديولوجية والسياسية فيما لم يحصل انفصال تام مماثل في التفكير الاقتصادي، أي فيما يخص آفاق التطور الاقتصادي للمجتمع الروسي بعد القيصرية. إذ لم يتم إثارة اي جدل جدي اساسي قبل ثورة (١٩١٧) يتم فيه توضيح اقتصاد مجتمع ما بعد الثورة. كما لم تُحَدَدْ الرؤية الدقيقة للبروليتاريا حول الاقتصاد بشكل ملموس، كما لم تناقش بمثل تلك الهمة التي نوقشت بها وفُصِلَتْ نظراتها السياسية، على سبيل المثال، مسالة الدولة والحرب الامبريالية والديمقراطية و...الخ. قد يُقال ان هذه النظرة في نفس مفهوم الاشتراكية، كعلاقة اقتصادية جديدة، وفي فكرة الغاء الملكية الخاصة، واضحة بشكل كافٍ. بيد ان المشكلة تكمن هنا على وجه التحديد. لقد كانت السمات الاساسية المميزة للاشتراكية، كما ادركتها الاشتراكية الديمقراطية الروسية والاشتراكية الديمقراطية العالمية بصورة عامة، هي إلغاء الملكية الخاصة، إحلال التخطيط الاقتصادي، مركزة الانتاج وتطور القوى المنتجة. يمثل هذا الادراك للمحتوى الاساسي للتفكير الاقتصادي للاشتراكية الديمقراطية حتى تلك اللحظة. هذا التفكير الذي عبر عن نفسه، بوضوح، في المسودة الاولى لبرنامج حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي التي اعدها بليخانوف حتى مباحثات (١٩٢٤-١٩٢٨). من الجدير بالذكر، حافظت الاشتراكية الديمقراطية الاصلاحية الحالية، ورثة الاممية الثانية، الى حدٍ ما، على هذا الفهم للاقتصاد الاشتراكي. حيث شكل عصب الصيغة البرجوازية للاشتراكية. طبقاً لفهم الاشتراكية الديمقراطية الروسية، كانت المهام الرئيسية للاشتراكية والثورة البروليتارية في الميدان الاقتصادي هي: نمو قوى الانتاج، تطوير الصناعة واقامة اقتصاد حديث يستند الى التخطيط المركزي. ويكمن السبب الذي يقف وراء مثل هذا الفهم حقيقة ان الراسمالية قد تم انتقادها، بصورة جوهرية، اساساً فيما يتعلق بالصيغ النظرية الخاصة بها، وذلك ل"فوضاها في الانتاج". لذا لايعد سوى امراً طبيعياً، مع مثل هذا الفهم للراسمالية، ان يُفهمْ الطرح المضاد لها على انه النظام الاقتصادي الذي، بمعونة التخطيط، يضع حداً لهذه الفوضى. ولم تول اكثر مهام الاشتراكية اساسية، اي ظهور تلك الاشكال من الملكية والتحكم الاقتصادي التي تلغي الملكية البرجوازية، كماتلغي العمل المأجور وتطيح بمجمل اشكال الراسمال، وعبر هذا السبيل تحديداً، يُعبد الطريق للنمو الهائل لقوى الانتاج، سوى اهمية قليلة. إن مفهوم الملكية العامة والغاء العمل المأجور قد اركن جانباً امام فكرة تطور قوى الانتاج وبناء اقتصاد وطني مبرمج. دون شك، كان هذا الفهم للمهمات الاقتصادية للثورة العمالية، وهذا الادراك للاشتراكية، اي هيمنة فكرة نمو قوى الانتاج على قلب اساس الراسمال والملكية البرجوازية، من ميراث الاممية الثانية والحتمية التكنولوجية الارتقائية السائدة في منظومة افكارها ولاتعكس الحالة النظرية للاشتراكية الديمقراطية الروسية فحسب.
ساعود لاحقاً لتناول خصائص الاشتراكية بوصفها نظاماً اقتصادياً. ان ما ابغي تناوله، هنا، هو انه لم يتم ترسيم تمايز العامل والاشتراكية الديمقراطية الثورية الروسية بدقة ووضوح عن الافق الاقتصادي للبرجوازية الروسية التي يضيق التخلف الاقتصادي لروسيا القيصرية الخناق عليها. بقت اوجه مشتركة عديدة في الافاق الاقتصادية للبرجوازية والبروليتاريا على حالها. لقد كان بمقدور التحديث الاقتصادي، النمو الصناعي، وحتى مركزة الاقتصاد ومفهوم التخطيط ان تصبح اجزاء من البرنامج الاقتصادي للبرجوازية الروسية الكبيرة والتي تسعى، على اية حال، لتعويض تخلف روسيا وانجاز ذلك باللجوء الى تلك السبل والطرائق التي تختلف عن تلك التي سادت في راسمالية "دعه يعمل" التنافسية. (بعد ثورة اكتوبر، واستنادا الى ملاحظة النمو السريع للاقتصاد المبرمج في هذا البلد، اعتمدت البرجوازية في البلدان النامية، بصورة رسمية، مجمل اجزاء هذا البرنامج بوصفه برنامجها الخاص). اود ان الفت انتباهكم الى حقيقة ان مناظراتي، هنا، لاتتعلق صرفاً بوجود أو غياب وثيقة معينة او كتاب او كراس كان من الممكن ان تُوَضَحْ فيه اكثر الخطوات العملية للاشتراكية العمالية في الميدان الاقتصادي. بل يتعلق بحثي بتحلي العمال الطليعيين الروس، سواء الحزبيين ام غيرهم، برؤية اقتصادية بديلة وتحصينهم من الافق البرجوازي للتطور الاقتصادي. لم تكن مثل هذه التربية ممكنة الاعبر سنوات من الجدل العميق والواسع وتمييز الحدود الفاصلة عن الافاق البرجوازية. بمثل العملية التي فُضِحَتْ فيها الوطنية الامبريالية للبرجوازية الروسية امام اعين العمال الروس، او مثل التجربة الغنية التي ساعدت بفضح الليبرالية والاصلاحية امام العمال الروس. اما البديل الاقتصادي للبرجوازية الروسية فقد تُرِكَ دون ان يتعرض له احد بالنقد طيلة تلك السنوات.
في الحقيقة، لم يتم سوى لاحقاً تلمس حضورها، اي عندما اصبحت وبصورة فعالة قضية الاقتصاد الروسي ومسار تطوره معضلة ملحة. ففي المرحلة التاريخية والحاسمة من العشرينات، فان هذه العوامل المشتركة هي التي قطعت الطريق على مسيرة الثورة البروليتارية في الميدان الاقتصادي وافضت بها الى الطريق الرئيسي المؤدي للتطور الراسمالي في روسيا. والخص كلامي بالقول لقد طرح القرن العشرين امام المجتمع الروسي عامة سؤالاً اساسياً يتمثل بكيفية تجاوز تخلفه الاقتصادي واللحاق بركب النمو الصناعي والانتاجي الذي مرت به اوربا الغربية. انطلقت القوى الاجتماعية في روسيا حول هذا السؤال الاساسي. هبت الطبقتان الصاعدتان الرئيسيتان، البرجوازية والبروليتاريا، سوية بالنضال ضد النظام القديم، وفي الوقت ذاته، تجابهتا ضد بعضهما البعض كقوتين متعارضتين بافقين متضادين. ويتمتع كلا البديلين، في ظروف روسيا، بالامكانات التاريخية لتحققهما. إذ ان بوسع كلا البديلان فتح آفاق واسعة امام النمو الاقتصادي للمجتمع الروسي. دفعت اللينينية والبلشفية الطبقة العاملة الى الميدان كقوة مستقلة تقف بالضد من كل من البرجوازية والقيصرية. وقد تحققت هذه الاستقلالية الطبقية بوضوح في مسالة السلطة السياسية وحتى في مسالة بنية جهاز الدولة واصبحت سمة عضوية وراسخة للحركة البروليتارية الروسية. وسمحت تلك الاستقلالية الكبيرة للعمال الروس، في ظل قيادة البلاشفة، ان تعطل الخطط من اجل التطور البرجوازي الديمقراطي للابنية الفوقية السياسية والرسمية في روسيا ولاقامة سلطة العمال المستقلة عبر الثورة البروليتارية. بيد ان الطموحات الشعبوية لتجاوز تخلف الاقتصاد الروسي القومي والافكار الاقتصادية المبتورة السائدة في الاشتراكية العمالية العالمية حرمت الطبقة العاملة وحزبها الطليعي، الحزب البلشفي، في اكثر مراحل الثورة الروسية حسماً، من تشكيل صفها المستقل حول القضية الاساسية للمجتمع الروسي، اي نمط الانتاج الاجتماعي والتطور الاقتصادي. "اصبحت الثورة ضحية التشوش الحاصل في اهدافها الاقتصادية". لم يمثل هذا التشوش معضلة فكرية او نظرية فحسب، بل واقعاً اجتماعياً. فيما لم يُستقطب المجتمع الروسي، بشكل كافٍ، حول الافق الاقتصادي لتطوره. حيث تقهقر الحزب العمالي الذي يفتقد الى رؤية واضحة للتحويل الثوري لعلاقات الانتاج، والذي يعاني وطاة الضغوطات الاقتصادية والسياسية للمجتمع الراسمالي عالمياً ومحلياً، الى الارضية المشتركة لمواقفه الاقتصادية مع تطلعات البرجوازية. و حلَّ، بدلاً من التحويل الثوري للنظام الراسمالي، اصلاحه عبر توسيع ملكية وتخطيط الدولة لغرض تراكم رؤوس الاموال وتقسيم العمل. ونظراً لعدم تخطيها هذه المرحلة، سمحت ثورة العمال بسلب مجمل مكتسباتها تدريجياً مرة اخرى تحت ضغط وقائع الاقتصاد البرجوازي وحاجاته. وقد غابت اللينينية والاستقلالية الطبقية للبروليتاريا في كل جبهة ومعركة في الوقت الذي كان يُحسم فيه مستقبل النظام الاقتصادي للمجتمع الروسي. فقد كان شعار "الاشتراكية في بلد واحد" راية لتقهقرها لصالح الاقتصاد البرجوازي- القومي في روسيا. الراية التي يعود سبب رفعها، على وجه الدقة، الى غياب الراية اللينينية لبناء الاشتراكية في روسيا ك"ارقى" نظام اقتصادي يستند الى الملكية العامة والغاء العمل الماجور. ولم يكن بناء الاشتراكية في روسيا، بالمعنى الماركسي والحقيقي للكلمة، امراً ممكناً فحسب، بل كان اساسياً ايضاً لمواصلة الثورة وتعزيزها. لقد هُزِمتْ الثورة امام مهامها الاقتصادية.
بناءاً عليه، بإمكاننا ان نستخلص استنتاجات عديدة. اولاً، نؤكد مرة اخرى على الدور الرئيسي للتحويل الاقتصادي في روسيا بعد الثورة. إذ جرى الصراع الطبقي في روسيا في ظل علاقات اجتماعية محددة وحول معضلات اساسية نابعة من التناقضات والتضادات المتجذرة في صلب هذه العلاقات. ان عملية التطور الاقتصادي نفسها التي دفعت بالبرجوازية والبروليتاريا في روسيا الى الظهور، تطرح ايضاً الضرورة الموضوعية لتحويل العلاقات الاقتصادية القائمة.
ان مصير الثورة الروسية قد حددته، في المطاف الاخير، كيفية تناول هذه الضرورة الاجتماعية التاريخية الاساسية. وقد كانت الحلقة الاساسية في تطور الثورة البروليتارية ؛ كما مثلت ايضاً القضية الرئيسية للثورة المضادة التي قامت بها البرجوازية. ان التحليل الماركسي موظف بتقييم تاريخ هذه المرحلة لا استناداً الى النماذج النظرية المعدة سلفاً حول ماهو صالح وماهو طالح في ثورة عمالية، بل حسب تعامل الطبقات الاجتماعية مع هذه المسالة الاساسية للمجتمع الروسي. ويتلخص بحثنا في ان الطبقة العاملة الروسية، وعلى الرغم من حركتها بحزم لنيل السلطة السياسية، وعلى الرغم من انها استولت على هذه السلطة واقامت الحكومة العمالية، الا انها، وفي اكثر مراحل الثورة حسماً، سلمت زمام امورها للسبيل البرجوازي في مسالة التحويل الاقتصادي للمجتمع. وانتهت حصيلة الثورة، اقتصادياً، الى مجرد فرض اصلاحات معينة على تطور الراسمالية في روسيا دون القيام بالتحويل الاشتراكي. يجب البحث عن جذر هذا الاخفاق في غياب الحدود المادية والاجتماعية الفاصلة بين تطلعات الطبقة العاملة الاقتصادية والافق التصنيعي والقومي للبرجوازية الروسية.
ثانياً، إذا ما قبلنا بحقيقة ان صراع القوى الاجتماعية في روسيا الذي سبق الثورة قد أُسـتُقطِبَ حول سياستين طبقيتين بديلتين حول التطور المقبل لروسيا، اي السياسة التصنيعية القومية للبرجوازية والسياسة الاشتراكية للبروليتاريا، عندها يصبح من الواضح ان يتم تقييم مصير الثورة العمالية في روسيا، ايضاً، على اساس استمرارية هذا التلاقي الطبقي الاساسي بعد الثورة. ولايعادل الانتصار السياسي للطبقة العاملة في روسيا ومصادرة السلطة الاقتصادية والسياسية للبرجوازية الكبيرة نهاية الصراع الاجتماعي والطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا لتحديد مصير المجتمع الروسي طبقاً لمخططاتهما وبدائلهما. من المهم ادراك حقيقة باي اشكال جديدة، واستناداً الى اية قوى اجتماعية ومادية طرحت نفسها في الساحة السياسية والاجتماعية لروسيا. ذلك ان لكلا البديلين امكانية وارضية تاريخية لتحققهما. بالطبع، اننا نستطيع، بوصفنا ماركسيين، بوصفنا فعالي حركة اجتماعية معينة، إعلان ما ان ترفع البروليتاريا راية البديل الاشتراكي، فان اي بديل اجتماعي آخر لايعني سوى الرجعية. ان هذا، بالطبع، يشير الى نيتنا ووظيفتنا في الحط، عملياً، من بدائل الطبقات الاخرى. ان التصريح بذلك امراً ضرورياً دون شك. اما في روسيا عام ١٩١٧، وبصورة واقعية، ثمة عمليتان بوسعهما خلق التغيرات المادية والواقعية في المجتمع، تغيرات تصب في طاحونة خلق بلد مقتدر من الناحية الاقتصادية. ان التطور الراسمالي للمجتمع الروسي وتحويل اقتصاد روسيا الى اقتصاد مقتدر في ظل النظام الراسمالي يمتلك امكانية واقعية ومادية وافقاً حياً قابلاً للتطبيق في المجتمع. (وكما اثبت ذلك لاحقاً، فقد تقدم النمو الاقتصادي في روسيا، فعلياً، في ظل النظام الراسمالي). لذا، من الواضح ان يتعلق الجدل حول تبيان اي من القوى الاجتماعية والطبقية ستصبح حاملة لواء اي من تلك البدائل العملية وممكنة التحقيق تاريخياً. لقد سعيت، سابقاً، الى الاشارة الى كيف ان قسماً من الاشتراكية الديمقراطية الروسية (المناشفة) قد سلَّموا، مباشرة، وقبل ثورة ١٩١٧ بفترة طويلة، الى الافق البرجوازي لتطور المجتمع الروسي وكيف ان البلاشفة لم يكونوا، بهذا الخصوص، براء من إنعدام صفاء الرؤية هذا. في حقيقة الامر، ان هذا الافق البرجوازي، وفي ظل ظروف تاريخية معينة في العشرينات والتي تتمثل اساساً في غياب الصف البروليتاري المنظم والذي يرفع راية السبيل الاشتراكي الواقعي، قد مثله الخط الرسمي للحزب الشيوعي نفسه، اي تحديداً خط ستالين.
لذا، نحن لانشاطر التصور المخططاتي وغير الواقعي الراي والذي يذهب الى شطب اسم البرجوازية من لائحة القوى الاجتماعية النشيطة في المجتمع عشية ثورة ١٩١٧ وفقدان البديل البرجوازي لتطور المجتمع الروسي كل علاقته بالمجتمع. ان فهم الاطار الاجتماعي لثورة اكتوبر يعني فهم استمرارية الصراع الطبقي وارتباطه قبل الثورة وبعدها، اي فهم المسالة وادراكها على ان افقي البرجوازية والبروليتاريا لتحويل المجتمع الروسي، عشية ثورة اكتوبر، كانا لايزالان يواجهان بعضهما البعض؛ في الوقت الذي بقت فيه المعضلات الاساسية للصراع الطبقي تلف حولها القوى الواقعية في المجتمع. فقد تم التأكيد، حتى في التفسيرات الحالية لليسار الراديكالي، على ان عصبة ستالين مثلت، في التحليل الاخير، الاتجاه القومي الروسي. لكن ماعجز اليسار عن فهمه هو عدم كون هذا الاتجاه القومي مجرد ظاهرة ايديولوجية او ميل فوقي. ذلك ان هذا الاتجاه القومي يمثل راية البرجوازية ورمز سلطتها المادية في المجتمع. ان لهذا الاتجاه القومي محتوى اقتصادياً محدداً. لم يكن هذا المحتوى سوى الارتقاء بالاقتصاد القومي الروسي الى مستوى الاقتصاد الراسمالي المتقدم لاوربا في ذلك العصر. فيما تتجاوز السلطة المادية للبرجوازية، الى حدٍ كبير، الحضور الفيزيقي للبرجوازية في الوظائف الادارية والدوائر الحكومية. وتقوم البرجوازية بتعميم مصالحها وافكارها على انها غايات المجتمع كله واهدافه. ويصبح التفكير البرجوازي قوة هائلة تعشعش في اذهان ملايين الناس وميولهم "العفوية" والذين لاتربطهم اية مصلحة مشتركة مع البرجوازية. يرتكب المرء الذي يشطب، مع ثورة ١٩١٧، البرجوازية من الساحة السياسية اكثر اشكال الاختزالية فداحة واسوأ اشكال الابتعاد عن الفهم الشامل و الاجتماعي للماركسية والعلاقات الطبيعية في المجتمع الراسمالي. رغم ان ثورة اكتوبر قد احدثت عدة تغييرات ضخمة في صالح الطبقة العاملة وفي توازن القوى القائم بين البروليتاريا والبرجوازية؛ بيد انها لم تطمس، كما لم يكن بمقدورها ان تطمس جوهر هذه المجابهة الطبقية، المجابهة الطبقية التي مثلت حينها بؤرة الصراع الطبقي في المجتمع والتي لايمكن محوها دون تحويل اقتصادي هائل. لذا، لنا خلافات مع تلك النظرات التي ترى في انتصار ثورة اكتوبر واقامة دولة العمال مسوغاً كافياً لان تعتبر ان دينامية المجتمع الروسي تستند الى شيء آخر غير الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا. تلك النظرات التي افقدتها التناقضات بين البروليتاريا والطبقات الصغيرة في المجتمع صوابها والتي تعتبر التهديدات المحيقة بالاشتراكية ليست نابعة من الراسمالية، بل من الانتاج البضاعي الصغير وامثاله. ويُعتبر، براينا، مثل هذا النوع من التفسير لمشاكل المجتمع الروسي بعد الثورة، وفقاًً للنظرية الماركسية، نظرة غير صائبة، ميكانيكية وساذجة سياسياً. نحن لاننكر ما لأهمية التناقضات بين البروليتاريا ومصالحها وبين طموحات الفئات ألإجتماعية الاخرى، بل نؤكد على إستمرار الدينامية الطبقية في حركة المجتمع، أي سيادة المجابهة بين العمل والرأسمال، والعامل والراسمالي، في كلا الفترتين التي سبقت الثورة والتي تلتها ونضع تأكيدنا على تأثير هذه الدينامية حتى على الصراعات الاجتماعية الاخرى. ولم تلغ مصادرة السلطة السياسية للبرجوازية الروسية الكبيرة سبيل حلها الاجتماعي لهذه الطبقة، بل فقدت ادواتها الانسانية المباشرة. لهذا، تحتم عليها إيجاد، ولو بصورة إضطرارية ومؤقتة، أدوات إنسانية وطبقية جديدة. بتعبير آخر، إذا كانت البروليتاريا، في عشية الثورة، تبحث عن بديلها الاشتراكي، فان ما كان يحدث في الطرف الاخر من المعادلة هو حضور قوى طبقية وفئات اجتماعية تحاول (من دون شك، بدعم الراسمال العالمي ومباركته) العمل كمدافعة عن مصالح البديل البرجوازي الصناعي في روسيا. إذ ليس بوسع الفلاحين والبرجوازية الصغيرة والفئات المتوسطة والبيروقراطيين و....الخ، في خضم هذا التناقض الطبقي الاساسي، سوى ان يمثلوا ادوات طبقية وبشرية لتواصل البديل البرجوازي وديمومته ومقاومته، لا ان يكونوا حملة لواء والقوة المحركة للبدائل الناشئة حديثاً للفئات الهامشية. باضطلاعهم بهذا الدور فقط، بوسع الطبقات الهامشية، بصورة اساسية، ان تلعب دوراً اجتماعياً حاسماً، لا ان يكونوا مدافعين عن مصالحهم الهامشية. ان نموذج الملالي وسلسلة المراتب الدينية في ايران نموذج محدد وحي لهذه الحقيقة. إن حركة هذه الفئة لاتتعقب مصالحها الفئوية المناهضة للطبقة العاملة، بل عبر اقامة وادامة السلطة الطبقية والبديل الطبقي للبرجوازية في ايران. ويستمد الصراع الاجتماعي شكله فقط على اساس تلك البدائل الطبقية التي لها امكانية واعتبار تاريخي- عام. ذلك ان الصراع في عصرنا الراهن هو صراع الاشتراكية والراسمالية، صراع البروليتاريا والبرجوازية. ويتحتم استقطاب جميع الطبقات والفئات الاجتماعية حول هذا الصراع، وفي التحليل الاخير، ليس بمقدورها ان تلعب دوراً اجتماعياً حاسماً الا ارتباطاً بهذا الصراع الاساسي.
اما المعنى ألآخر لهذا البحث فهو في حالة عجز او انحراف البروليتاريا عن تحقيق بدائلها، لايبقى امام المجتمع الروسي، لإدامة حياته الاقتصادية، سوى البديل الذي تقدمه البرجوازية. لهذا، نحن لانشاطر الراي اؤلئك الذين يعتقدون باقامة نمط جديد للانتاج او اقتصاد انتقالي يستند الى انماط الانتاج البضاعي الصغير او غيره. كما لا نقبل اعتبار البيروقراطية طبقة اجتماعية رئيسية في المجتمع. يجب تفسير البيروقراطية هذه بوصفها اشكالاً لاستمرارية المجتمع الراسمالي وحكم الراسمال وتواصله. بمقدور المرء، على الورق، ان يحدد اي نمط انتاجي جديد او طبقة او اية طبقة حاكمة جديدة يختارها ويصف الوقائع بالطريقة التي يرغب؛ بيد ان التاريخ يتحرك وفق امكاناته المادية الخاصة واسسه الاجتماعية التي هي نتاج ممارسة طبقات اجتماعية واقعية. وتعني هزيمة الثورة البروليتارية في سياق مجتمع رأسمالي استمرار الراسمالية وديمومتها وإن يكن باشكال جديدة. ان ذلك لايعني ظهور نمط جديد للانتاج والذي تفتقد قواه الدافعة وارضيته واسسه الاجتماعية الى اي وجود موضوعي في حمية الصراع بين الاشتراكية والراسمالية. على اؤلئك الذين يدافعون عن هذه النظرات ان لايفسروا جذور ظهور مثل هذا النمط الجديد للانتاج واشكال ظهوره والطريقة التي تغلب بها على الحركة الاشتراكية فحسب، بل عليهم ان يفسروا ايضاً كيفية سحقه للبديل البرجوازي والراسمالية القائمة فعلياً. فكيف كان لمهمة عجزت البروليتاريا عن تحقيقها، اي الاطاحة بالراسمال، ان تقوم بها "فئة" اجتماعية هامشية دون ادنى مقاومة تبديها البرجوازية!
يؤول بنا تأكيدنا على ضرورة النظرة التاريخية والاجتماعية لثورة اكتوبر الى تلك النقطة التي تتمثل بوجوب ان يكون صراع الطبقات الاساسية للمجتمع، البروليتاريا والبرجوازية، وتجابه البدائل التاريخية والاجتماعية لكلا الطبقتين، الاشتراكية والراسمالية، اساس تقييم مصير ثورة اكتوبر.
دون شك، كان غياب الاستعداد النظري بالنسبة للعنصر المتقدم من الطبقة في هذه الثورة احد اهم الاسباب المسؤولة عن عدم قدرة الطبقة العاملة الروسية في انهاء الثورة بصورة حاسمة. وسأتناول لاحقاً دلالة هذا الضعف وأهميته. لكن، بدءاً، اود ان اشير الى ان بحثي لايتعلق بإلالمام "العلمي" للحزب البلشفي بالماركسية أو باقتداره النظري. انا لااتحدث عن النظرية كميدان مستقل وشيء قائم بذاته؛ بل ما اقصده هو تشوش التصور السياسي للطبقة العاملة والابهام والغموض على الصعيد الاجتماعي في السمة السياسية للطبقة العاملة. ولجت الطبقة العاملة الروسية الميدان كقائد للتحويل الثوري للمجتمع؛ ولكن يعتمد مدى هذا التحويل والطريقة التي تدفع بها المجتمع الى الامام، بلغة طليعييها، على مقدار ظهورها امام المجتمع كطبقة قائمة لذاتها واهدافها واولوياتها. لم تتخطى الطبقة العاملة، في ممارستها، الافق الذي وضعته امامها طليعة الطبقة، اي الحزب السياسي والقادة العمليين للطبقة. فمن الممكن جداً تقدم الطبقة العاملة الميدان كقائد للاحتجاج الاجتماعي؛ ولربما حدث ان افقها للصراع لم يتجاوز، عملياً، القيام باجراءات تهدف الى الى تحقيق التغيرات الديمقراطية، السيادة الوطنية او الغاء التمييز العنصري وغيرها. في ثورة ٥٧ (عام ٧٨-١٩٧٩ ميلادي، الثورة التي ادت الى الاطاحة بالشاه والملكية – م) في ايران، كان العمال انفسهم، عملياً، وفي مراحل حاسمة، قادة الاحتجاج الجماهيري. (حيث تحولت الاضرابات العمالية، عملياً، الى مركز الحركة الثورية). بيد ان الافق النضالي للعمال انفسهم، لم يتخطى كثيراً افق الجناح اليساري للبرجوازية الايرانية. إذ كانوا يفتقدون تحديداً للسمات الاجتماعية والسياسية لقائد وقوة اشتراكيين. كما لايعني الاستعداد النظري للعنصر المتقدم من الطبقة مجرد نضجها وتمرسها النظري؛ بل انه يشير اساساً الى قدرتها على تسليح الطبقة العاملة في كل فترة ومرحلة معينة بادراك وتصور صحيحين لاهدافها الطبقية وتمايزاً مع اهداف وميول الاتجاهات الاجتماعية الاخرى. وقد لايعتري حزب الطبقة العاملة نقص في الادراك النظري للماركسية؛ ولكنه قد يعجز، من الناحية الواقعية، عن فصل العمال، بصورة كافية، عبر الصراع النظري على الصعيد الاجتماعي، بإتخاذ موقف نقدي عميق من القومية والدين وإضطهاد المرأة. ومثلما ذكرت ان عدم الاستعداد النظري يتمثل بتحصين الطبقة العاملة وتسليحها بمهامها الاقتصادية وتحديد اقتدار العمال بوصفهم قائد وقوة تغيير في المجتمع. ولايمكن تحقيق الاستعداد النظري للحركة الاشتراكية للبروليتاريا بمجرد الفهم العلمي للنظرية الماركسية من قبل حزب الطبقة العاملة؛ كما لايمكن تقليصها الى وجود الكتيبات والكراسات للمسائل النظرية لهذه الحركة. إذ تتمثل المسألة بارشاد القادة العمليين للطبقة العاملة بخطوط فاصلة واضحة في حمية الصراع الطبقي وخصوصاً في منعطفاته الحاسمة. تكمن القضية بتحويل المباديء النظرية الى جزء من الوعي السياسي والعملي للعمال الطليعيين والقادة العمليين للطبقة؛ ويمكن ان يتم ذلك فقط عبر مجابهة هذه الاصول الطبقية لمصالح التيارات غير البروليتارية في الصراعات الفعلية الجارية في المجتمع.
لقد نجح البلاشفة بتسليح العامل الروسي، في ميادين عدّة، بافق مستقل. ومن الجدير بالذكر ان اليسار الراديكالي يشير، في بحثه عن الاخطاء النظرية للبلاشفة بعد استيلائهم على السلطة، الى المجالات التي تمثل مكمن قوة البلاشفة، وهي تحديداً التصور الماركسي للاممية والديمقراطية البروليتارية. بالمناسبة، ينبغي القول ان هذه المجالات كانت الميادين التي لم يمثل البلاشفة فيها الارثوذكسية (الاصالة) النظرية حيال الاشتراكيات السائدة في عصرهم فحسب، بل في تحويل هذه الارثوذكسية الى سمة مميزة للعمال الروس. ففي اكثر المراحل حدةً وحسماً، حين اندلعت الحرب الامبريالية والتي دفعت الاشتراكية الديمقراطية العالمية الى مساندة برجوازية بلدانها، لم يكن سوى البلاشفة الذين لم يعطوا معنى للاممية فحسب، بل قادوا ايضاً العمال الروس، عملياً، الى المجابهة العنيفة ضد برجوازية بلدهم. اما فيما يخص مبدأ الديمقراطية البروليتارية، فقد كان البلاشفة من احيى، عبر السوفيتات، تجربة الكومونة ورسخوا وسط العمال الروس امكانية اقامة الدولة العمالية التي تستند الى السوفيتات. ولكي يحولوا تلك المباديء الى جزء من الوعي الذاتي للطبقة العاملة الروسية، قاموا بتصعيد وقيادة المعارك النظرية الحاسمة منذ بداية القرن العشرين حتى اندلاع الثورة.
يشير بحثي حول نقص الاستعداد النظري عند البلاشفة، على وجه الدقة، الى تلك الميادين التي، وبغض النظر عن كونهم منظرين ماركسيين ذوي براعة علمية أم لا، عجزوا فيها عن تعميق الاصطفاف النظري والايديولوجي للطبقة العاملة ضد الطبقة البرجوازية؛ تلك الميادين لم تصبح بعد، حتى آنئذ، الساحة الرئيسية للصراع الايديولوجي بين الطبقات والتي لم تتضح فيها معالم الهوية السياسية المميزة للبروليتاريا بعد. كان من الممكن ان تكون الاخطاء النظرية لتيار او حزب ما، ومن ضمنه الحزب البلشفي، كثيرة. كما من الممكن ان يشير المرء الى ان للبلاشفة اخطاء فيما يخص قضية المرأة، انظمة الحزب الداخلية او حق الامم في تقرير مصيرها و...الخ، لكن يتمثل جوهر بحثنا في ان هذه النقوصات، حتى وإن افترضنا وجودها، لايمكن ان تصبح العامل الحاسم او الضعف النظري الحاسم في تحديد المصير اللاحق للثورة. ويكمن غياب الاستعداد النظري الاساسي، بالمعنى الاجتماعي الذي وضحته سابقاً، في تحديد المهام الاقتصادية وتعميق مطاليب البروليتاريا من اجل تحويل العلاقات الاقتصادية في المجتمع الروسي. بعبارة أخرى، ان مجرد وجود هذا "الانحراف" النظري او ذاك ليس بكافٍ لتفسير اخفاق حزب ما او حركة اجتماعية ما. لايتمتع أي نقص نظري باهمية موازية في ميدان الممارسة وان يكن بمقدور أي منها ان يصبح عاملاً جذرياً وحاسماً في مرحلة معينة. حيث ان الظروف التاريخية والاجتماعية وسمات المنعطفات التاريخية الحاسمة في الصراع الطبقي هي التي تحدد مكانة واهمية أي "إنحراف نظري" معين. علينا ان نشير الى تلك الميادين في رؤية البلاشفة والبروليتاريا الروسية بعد ثورة ١٩١٧ والتي تسببت في عجزهم عن مجابهة القضايا الواقعية والحاسمة بالنسبة للظروف الملموسة للعصر؛ لا ان ننظر الى "انحراف" هم و"عدول"هم عن مباديء نظرية محددة. رغم هذا ليس ثمة حسنة في ان يصبح المرء متشككاً بتاريخ الافكار في الحزب البلشفي وفي اية مناسبة اشار بوخارين، تروتسكي، زينوفيف وستالين وحتى لينين الى مسالة ما او عرض سياسة ما ذات اخطاء ونقوصات نظرية، وان يقوم بتضخيم تلك الاخطاء واضافتها الى قائمته حول اسباب هزيمة الثورة العمالية في روسيا. ان موقف قائد حزبي معين من مسالة الديمقراطية داخل الحزب، تصرفات ستالين تجاه زملائه، وموقفه من المسالة القومية أو احاديث القاها زينوفيف في الكومنترن...الخ ليست بذات قيمة ايضاً في تحديد الاطار النظري اللازم لهزيمة الثورة. برأيي، بوسع حزب يعتقد بان الديمقراطية داخل صفوفه ناقصة، حزباً يناور في موقفه من المسالة القومية ان يخرج من خضم المباحثات المتعلقة بالخروج من سياسة النيب وبناء اقتصاد اشتراكي ايضاً بزهو وعلى راس البروليتاريا الاشتراكية من المجادلات حول مسالة "الاشتراكية في بلد واحد" شريطة ان تكون نظرته الاقتصادية واضحة واشتراكية بما فيه الكفاية كما يعبر عنها ويمثلها على صعيد المجتمع بصورة تامة في المواجهة مع البرجوازية واتجاهاتها. ولانجد حسنة في تحويل تاريخ انحطاط الثورة البلشفية في روسيا الى تاريخ الالغاز الفكرية في الحزب البلشفي وبذلك يقرب لحظة هزيمة الثورة الى اقرب ما يمكن من عام ١٩١٧. على المرء ان يكتشف المرحلة التاريخية الحاسمة والضعف النظري الحاسم. بامكان الحزب الذي يخرج من المراحل التاريخية الحاسمة مرفوع الراس (كما حصل مع البلاشفة بعد استيلائهم على السلطة السياسية، بغض النظر عن النقوصات)، ايضاً، تصحيح نقائصه الصغيرة في حركته الى امام وتقدم مجتمعه وطبقه.
برأيي، يتمثل الضعف النظري الاساسي بفقدان تحديد الاهداف والسبل الاقتصادية للبروليتاريا الاشتراكية. ان لهذا الضعف اسبابه التاريخية المحددة. وكما ذكرت، نجت افكار مثل التحديث الاقتصادي للبرجوازية الروسية و"بناء روسيا مزدهرة وصناعية" من النقد لفترة طويلة. فيما أُهمِلَتْ مسالة اقامة اية علاقات انتاجية محددة؛ واية اشكال اقتصادية في روسيا يجب ان تقام لتحل محلها مهمة نقد التخلف القائم. ويعتبر التأكيد المستمر لقادة الحزب في الفترة التي تلت الثورة على صيغة "علينا ان نتعلم من البرجوازية" شاهداً على ان مسالة التحويل الاقتصادي كانت بالنسبة لهم تماثل الارتقاء بالجانب الكمي للانتاج وتحسين ادواته، وليست مع تثوير علاقات الانتاج، اي الميادين التي ليس فيها ما يجب تعلمه من البرجوازية والتي على البروليتاريا ان تتبع على وجه الخصوص طرقها الخاصة التي تعارض الممارسة الاقتصادية للبرجوازية في كل من روسيا والمانيا.
يجب ان لايبحث عن جذور محدودية النظر هذه في الموقف حيال المهمات الاقتصادية للبروليتاريا، صرفاً، في روسيا نفسها. ربما يكمن العامل الاكثر اهمية في تربية مجمل الاشتراكية الديمقراطية والاممية الثانية في هذا الميدان. لقد اثرت رؤية الاممية الثانية ونظرتها على تفكير الاشتراكية الديمقراطية الروسية لفترة طويلة.
لقد كونت الاممية الثانية تفسيرها المعين للماركسية؛ وان هذا التفسير هو الذي اعطى، بالمقابل، الارضية للاستنتاجات القومية. ان قادة هذه الاممية هم الذين تحولوا، بعد فترة، الى مؤيدي برجوازية بلدانهم في الحرب العالمية الاولى. وكيف ان هذه الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية، في ارتقائها، قد طورت، وبصورة اكبر، نزعتها القومية الخاصة بخلق الاقتصاد القومي والاستراتيجية السياسية التي تهدف الى حماية الاقتصاد القومي لبلدانها. ولفترة طويلة، ادركت الاشتراكية الديمقراطية الروسية وفهمتها من تعاليم هذه الاممية وبلغة قادتها.
لقد جرى انفصال البلاشفة عن النفوذ النظري والعملي للاممية الثانية؛ واتخذ شكل عملية تمت خطوة خطوة. لقد كانت لهذه العملية مراحلها التاريخية الحاسمة؛ ولكن ماهو جدير بالاهمية الاشارة الى ان هذه العملية لم تُختَتَمْ كلياً وبحسم مع حلول عام ١٩١٧. واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار التفسير الاقتصادي لكل من تياري ستالين وتروتسكي للاشتراكية والراسمالية، اي التفسير الذي فُهِمَـتْ به، بصورة تقل ام تزيد، راسمالية الدولة وملكيتها لوسائل الانتاج بوصفها تعادل الملكية الاشتراكية والعامة، عندها يصبح واضحاً مدى التأثير الفكري للاممية الثانية.
ويمكن ذكر جذرين اساسيين في تفكير الاممية الثانية واللذان يُصنفان من اكثر اشكال الضعف النظرية اساسية في الحركة الماركسية لذلك العصر والتي مهدت الاسس الهامة لتجريد الشيوعية من سلاحها النظري بوجه قضية كيفية وسبل تطوير ثورة اكتوبر في نهاية العشرينات. وقد أُستُنبِطَ القسم الاول عبر تحويل نظرية الثورة البروليتارية الى "علم" التطور التدريجي والارتقائي للمجتمع، اي النظرة التي محورها تطور قوى الانتاج والتي تحول هذه الفكرة الى القوة المحركة التدريجية للمجتمع. انها النظرة التي تعتبر التغيرات الاجتماعية على انها انعكاسات بسيطة وصافية للنمو النوعي والكمي لادوات الانتاج المفصولة عن دور الصراع الطبقي والممارسة الانسانية في تطور التاريخ الاجتماعي. وليس للعامل الانساني والعامل الثوري ومفهوم المراحل الثورية اي دور مُحَدِدْ في هذه الافكار؛ ولهذا تعجز عن ان تجد اي مكانة لدور الممارسة الثورية للطبقة. وتستند هذه النظرة، فلسفياً، على مادية ميكانيكية واختزالية. بيد ان هذه المنهجية هي التي تستخدمها قطاعات واسعة من اليسار اليوم. ان هذا التفسير للماركسية هو الرائج والشائع اكثر من نظرية ماركس الثورية نفسها؛ وبوسعنا ان نجد الكثيرين من حولنا يعتقدون بمثل هذه النظرات. اناس يأملون من النداء للثورة الاشتراكية في القرن العشرين تطور الصناعة في كل بلد. أؤلئك الذين يعتبرون دورهم في الصراع السياسي لايتعدى تسهيل الاستيلاء على السلطة السياسية من قبل تلك الطبقات الاجتماعية التي بمقدورها ان تطور القوى المنتجة؛ أؤلئك الذين ينافحون عن الثورة على مراحل...الخ، لذا، فانهم جميعاً، بصورة مباشرة ام غير مباشرة، لازالوا تحت تأثير التفسير الماركسي للاممية الثانية. لأورد مثال بالمناسبة، لقد قيل لنا دائماً ان البلاشفة كانوا امميين، ولهذا آمنوا بعدم امكانية انتصار الثورة دون اندلاعها في المانيا. سأبحث، لاحقاً، القيمة "الاممية" لمثل هذه النظرة. ولكن فلننظر الان الى التفسير الذي يقدمه، فعلاً، أؤلئك الذين يدافعون عن هذه النظرة في المجادلات الاقتصادية التي جرت عام ١٩٢٤ وبعده. يتمثل الطرح الاساسي الذي قُدّم تاييداً لهذه الاطروحة (والتي طرحها اساساً زينوفيف) في ان لألمانيا اقتصاداً صناعياً متقدماً. ودون مساعدتها، لاتستطيع روسيا "المتخلفة" وحدها ان تقيم العلاقات الاشتراكية. ان هذا مثال حي لهذه النظرة التي اتحدث عنها. ولست معنياً الان بما كان عليه الاقتصاد الالماني في ١٩١٧ اذا ماقورن باقتصاد كوريا الجنوبية الان، ومدى التطور الصناعي "الذي يجعل الاشتراكية امراً ممكناً" فيما يتعلق بالمستويات التكنولوجية للبلدان شبه الصناعية اليوم. ولكن يتمثل غرضي الان في تبيان المسالة التالية: حسب نظرة زينوفيف والاخرون، ان امكانية بناء الاشتراكية والغاء الملكية البرجوازية واقامة الملكية العامة قد حُدِدَتْ بالامكانات الصناعية. ان هذه النظرة تناقض روح البيان الشيوعي وجوهر الايديولوجيا الالمانية. ففي هذا المؤلف الاخير، ثَبَّتَ ماركس عصر الهيمنة الراسمالية كأنه امر مفروغ منه؛ واعلن امكانية بناء الاشتراكية قبل ستين عام من انكار زينوفيف لهذه الامكانية في روسيا. وتمثل مثل هذه النظرة داروينية اجتماعية وحتمية اقتصادية مبتذلة ترفض ملاحظة القوة الفعلية للبروليتاريا الثورية والتي، بدلاً من ذلك، تولي الاهتمام لمستوى القوى المنتجة والتطور الصناعي بوصفه ضوء اخضر لإحلال الاشتراكية.
وباختصار، كانت اولى نتائج التأثير النظري للاممية الثانية هي ان الطبقة العاملة الروسية وحزبها الطليعي قد اسقطوا من استراتيجيتهم، مسبقاً، امكانية اقامة علاقات اقتصادية اشتراكية في روسيا نظراً لإقتصادها "المتخلف". فيما استندت استراتيجية الحزب على انتصار الثورة الالمانية التي كانت، بالطبع، امكانية تاريخية فعلية.
ويتمثل الجذر الاخر في تفكير الاممية الثانية بتقليص مفهوم الاشتراكية، اي الملكية العامة والغاء العمل الماجور، الى ملكية واقتصاد الدولة. ولازال هذا الفهم سائداً لا بين الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية الرسمية فحسب، بل بين قطاع واسع من اليسار الراديكالي ايضاً. اما اليوم، فمن اجل اعتباره بلداً اشتراكياً، يشير المنافحون عن الاتحاد السوفيتي الى غياب الملكية الشخصية البرجوازية لادوات الانتاج وسيادة ملكية الدولة في هذا البلد؛ كما يقبل قطاع واسع من نقاد الاتحاد السوفيتي، ايضاً، هذا التعريف للاشتراكية. بيد انهم ينفقون جل وقتهم وطاقاتهم لتبيان ان "الاتحاد السوفيتي ليس دولة بروليتارية"؛ ولهذا فان ملكية الدولة، في هذه الحالة الخاصة، لاتعادل الاشتراكية. ويعتبر تقليص الاشتراكية الى اقتصاد الدولة، بذاته، تشويه برجوازي للنظرية الماركسية. انها تلك الصيغة من الاشتراكية التي روجتها البرجوازية وعممتها على العالم. ولسوء الحظ، لم يُجابَه، ولحد الان، هذا التشويه الاساسي للافق الاقتصادي للطبقة العاملة باي تصدي نظري جدي على ايدي الماركسيين.
يعتبر التقييم البرجوازي للراسمالية محور مثل هذا التصور للاشتراكية. بموجب هذه النظرة، لم تُدرَك الراسمالية على اساس علاقة العمل- الراسمال، بل على اساس علاقة الرساميل ببعضها البعض. انها تمثل نظر فرد راسمالي؛ ولهذا يُعتبر موقف برجوازي من الراسمالية. لقد أُعتُبِرَتْ المنافسة والفوضى في الانتاج على انهما اساس الراسمالية. لذا، حين تتم معارضتهما، توضع ملكية الدولة والتخطيط كطرح مضاد للراسمالية. ان مجمل التيارات التي تفهم الراسمالية على انها اساس وجود المنافسة، تقلص الاشتراكية الى راسمالية دولة. ان هذا تصور شائع. اما بالنسبة لماركس ولنا كماركسيين الذين خبرنا جوهر نقد ماركس للاقتصاد السياسي للراسمالية، فمن البساطة ان نفهم ان الراسمال يُعَرَّفْ في ميدان الانتاج على اساس علاقته بالعمل الماجور. تُعتبر المنافسة وتعدد الرساميل الشكل الشائع للراسمالية حتى الان. انه الشكل الذي يتبدى فيه الجوهر المتأصل للراسمال. ولكن لم يُعَرَّفْ هذا الجوهر المتأصل على اساس هذا الشكل من الظهور. بيد ان لهذا الجوهر محتوى اقتصادياً محدداً؛ حيث تصبح فيه قوة العمل بضاعة يقوم الراسمالي باستغلالها. ويعتبر ماركس انتاج فائض القيمة، اي حتمية فائض الانتاج كفائض قيمة على انه اساس الراسمالية. كما يعتبر العملية كنتيجة فقط لتحول قوة العمل الى بضاعة ولسيادة العمل الماجور. بالنسبة لنا، ان بديل الراسمالية هو الغاء الملكية البرجوازية والغاء العمل الماجور وارساء الملكية العامة لادوات الانتاج.
وتشير مسودة برنامج الاشتراكية الديمقراطية الروسية وقسم كبير من المجادلات الاقتصادية الداخلية في العشرينات الى هيمنة هذا الفهم الخاطيء للاممية الثانية داخل هذا الاتجاه. فهم يُعتبر فيه الراسمالية وازماتها على انها ناتجة من المنافسة والفوضى في الانتاج. لقد قُلِّصَ جوهر الراسمالية الاجتماعي والطبقي الى احد اشكاله المحددة. لهذا، من اجل اقامة الاشتراكية، لامناص من الغاء هذا الشكل المحدد، اي ظاهرة المنافسة والملكية المتعددة للراسمال. وكما ذكرت، فان تقليص الاشتراكية الى اقتصاد دولة هو امر محتوم في هذه النظرة.
لقد ضَُيَّقَ الميراث الفكري للاممية الثانية، بالاضافة الى الجذور الروسية للنزعة القومية في الاشتراكية الديمقراطية الروسية التي تناولتها فيما تقدم، افق الشيوعية في روسيا الى تغيرات اقتصادية كانت، تاريخياً، امراً ممكن تحقيقها بعد الثورة العمالية. سقطت المباحثات حول مسالة "الاشتراكية في بلد واحد" التي هي مجادلات حول المستقبل الاقتصادي للثورة والتي جرت- اي المباحثات- في الفترة من ١٩٢٤ الى ١٩٢٨، ضحية ضيق هذا الافق وغياب استعداد حزب العمال الطليعيين لإتمام ذلك التحويل الاساسي والضروري لاستمرار الثورة. ان ما حاربت اللينينية ضده، ولفترة طويلة، عاد مرة اخرى، وبفضل الضغوطات الواقعية الاقتصادية، السياسية وحتى العسكرية، ليهيمن على ممارسة حزب الطبقة العاملة. بيد ان هذه المرة له ابطاله النظريين الجدد. لهذا، ليس المجتمع الروسي وحده الذي لم يتقدم في صالح تطور الثورة البروليتارية في الميدان الاقتصادي، بل حتى الاممية الشيوعية التي اسستها اللينينية لتعارض بها الاشتراكية الديمقراطية، غدت، نفسها، مرة اخرى، اداة لتوسيع مصالح البرجوازية وتطلعاتها في بلد محدد.
ماقلته لحد الان يوضح مبدئياً اطروحاتنا الاساسية وموقفنا العام من مسالة الاتحاد السوفيتي. وكما ذكرت، لم نقصد بتناولنا هذا الموضوع البرهنة، تحليلياً، على صحة طروحاتنا، بل نقدمها لكي نعرض اختلافاتنا مع اشكال النقد القائمة التي تتناول مسالة الاتحاد السوفيتي. لهذا الغرض، اواصل البحث عبر اعطاء ردود مختصرة لبعض المسائل الاساسية التي تتعلق بالاتحاد السوفيتي.
بلاشك، اقامت ثورة اكتوبر ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا. نحن نرفض النقد الراديكالي شكلياً والذي يمثل في حقيقته نقداً برجوازياً يمينياً ذلك الذي يقول بان ما تم ارسائه في روسيا لم يكن ديكتاتورية الطبقة العاملة. ان تيارات اليسار هذه التي تقدم مثل هذا النقد، تقيم الدليل اساساً على دعواها بالاشارة الى العلاقة القائمة بين الحزب البلشفي والطبقة العاملة الروسية والى الطريقة التي شاركت فيها الاعداد الهائلة من العمال في منظومة الدولة. يجب ان تكون ديكتاتورية البروليتاريا، كما يقولون، السلطة المنظمة لكل جماهير الطبقة العاملة على اساس انظمة ادارية "ديمقراطية"؛ وهو الامر الذي لم يحدث في روسيا. ومن هنا، فانها تدعي بان الحكومة البلشفية- السوفيتية لم تكن ديكتاتورية بروليتاريا. ان مثل هذا التقييم، براينا، يطرح بمعزل عن الطبقة الواقعية بقصوراتها السياسية، العملية والواقعية. ولهذا تُفصَلْ عن الشكل المادي الذي اتخذته ديكتاتورية البروليتاريا، في الخطوة الاولى، اي عندما انبثقت من رحم المجتمع القديم. بيد ان هذا يعادل تقييم مدرسي وانكار متحذلق للبروليتاريا الحقيقية ودولتها الفعلية. ان ذلك يعني انكار لاية امكانية حقيقية وعملية للبروليتاريا في احراز السلطة السياسية وانكار صراعها وسلطتها الاصيلة تحت ذريعة نقد اخطائها ونواقصها في ممارستها لتلك السلطة. هذه مثالية؛ وتعادل في الواقع الانكار المسبق لاية امكانية لانتصار العمال. لقد اسهبت كثيراً في هذا الموضوع في كل من الحلقات الدراسية السابقة حول المسالة السوفيتية وفي دراسات مثل الدولة في المراحل الثورية[٢].
هل ان موقفنا من هذه القضية يعني اننا لانبالي بما يجب ان يكون عليه اسلوب عمل ديكتاتورية البروليتاريا واشكالها في الواقع؟ كلا، مطلقاً. يتضمن ذلك فقط اننا نفهم ونضع في حساباتنا النقوصات التاريخية والمادية لطبقة هي نتاج لظروف المجتمع القديم وضغوطات المجابهة الطبقية العنيفة في اوضاع ثورية. بداهة، الى الحد الذي تنجح فيه الطبقة العاملة، دون فوات الاوان، بترسيخ ديكتاتوريتها باشكال تسمح للجماهير العمالية بان تمارس بصورة مباشرة ارادتها؛ والى الحد الذي تستند فيه ديكتاتوريتها الى بنى محددة وديمقراطية واسعة، ستغدو طبقة اكثر اقتدار وقوة بنفس الحد. ولكن المسالة تكمن في فرصة تاريخية محددة وظروف تاريخية محددة. فاذا لم تنجح طبقة معينة في ان تقوم بذلك؛ ان لم تكن قد نجحت في اقامة نموذجها المتوخى للدولة وتصورها المسبق لديكتاتورية البروليتاريا فوراً، عندها لن نشاطر اؤلئك الذين ينكرون اقامة دولة عمالية قط؛ كما ينكرون ديكتاتورية البروليتاريا القائمة التي تعتبر عملياً في التاريخ الواقعي ديكتاتورية بروليتاريا، نظراتهم. لقد كان من الواجب ان يعرف العمال والحزب العمالي بانهم قد يواجهون، في مسرى التاريخ الفعلي، مثل هذا الوضع عدة مرات، وضع ان يستلم العمال السلطة، ولكن لايجدوا فوراً المادة الاجتماعية الضرورية لارساء حكم طبقة مطابق لنمطهم المتوخى للدولة. ويعتبر تاريخ الحزب البلشفي علامة بارزة على المساعي التي قامت بها البروليتاريا الروسية لصيانة حكمها في الوقت الذي كانت تعتريها نواقص واقعية.
بمقدور المرء ان يدعي ان بنية السلطة العمالية في ثورة اكتوبر لم تكن ديمقراطية طالما لم تمارس هذه السلطة من قبل الجماهير العمالية نفسها، بل من قبل القيادة.
برأيي، يعتبر التمايز الذي يضعه اليسار الراديكالي بين القادة والجماهير في ثورة اكتوبر انعكاس لذهنية مناهضة الديكتاتورية وذهنية برجوازية. ان احدى طروحاتنا الاساسية والتي تتعلق، على وجه الخصوص، ببحث الشيوعية العمالية هي: ليس بمقدور المرء ان ينطلق من مقولة "الحق" و"القيادة" اوغيرها كما تتصورها البرجوازية. ومن هناك، ينطلق في تفسير علاقة الطبقة العاملة بقيادتها. ان علاقة الطبقة العاملة بقيادتها ليست من طراز علاقات البرجوازية بساستها. ان الحركة السياسية للطبقة العاملة وممارسة الطبقة العاملة لارادتها ترتبط بصلة وثيقة مع حركة قيادتها السياسية. ان علاقة الطبقة العاملة بممثليها تتجسد بالحركة السياسية للطبقة العاملة؛ وان الطريقة التي تمارس بها ارادتها لها وثيق الصلة بالطريقة التي تقوم قيادتها السياسية باداء فعاليتها. ويمثل القائد العملي للطبقة العاملة، بصورة اكثر مباشرة، ارادة جماهير طبقته. وفي علاقة الجماهير العمالية بقادتها لاتحتل عملية التصويت عبر صناديق الاقتراع، ومنه تقييم راي العمال بعدد الاصوات الانتخابية، مكانة مهمة. وعليه، ان البحث الذي يدعي بان القيادة بعد ثورة اكتوبر لم تستمد شرعيتها من الاصوات الانتخابية للجماهير العمالية؛ وايضاً تلك التي تؤكد على ان بنية السلطة لم تكن "ديمقراطية"، وبالتالي، اعطى هؤلاء قضية "الديمقراطية" في تحليلاتهم للمسالة السوفيتية مكانة اكبر بكثير من مكانتها الواقعية في التاريخ الفعلي للثورة الروسية. وبصورة غريبة، تم فصل البلاشفة في ممارستهم، طبقاً لهذا المنطق، عن ميول العمال؛ وعورضت افعالهم، وبلمح البصر، بارادة العمال جاعلين منهما قسمين منفصلين. لقد قيل ان البلاشفة قلصوا سلطة المنظمات الجماهيرية للعمال؛ ولكنهم تناسوا ان البلاشفة قد مثلوا وشكلوا قسماً واسعاً من العمال. اذ عندما يعلن البلاشفة ارائهم حول قضية ما، فان ذلك يعني ان القسم المتقدم من العمال قد اعطى رايه في هذه القضية. لم يكن البلاشفة حزب مثقفين، بل عبروا عن تنظيم ووحدة اكثر الاقسام راديكالية داخل العمال الروس. كما تعتبر عملية معارضة طليعة الطبقة العاملة بالجماهير العمالية فكرة مبتذلة. انه لأمر يمكن فهمه ان تضع تضاداً بين القادة الزائفين والمدَّعين وبين ارادة الجماهير العمالية. ولكن ان تعارض الجماهير العمالية بطليعييها الخاصين في ميدان الصراع الطبقي فهو امر متناقض بذاته. فعندما ترى الطبقة العاملة قيادتها الفعلية وهي تمسك بزمام السلطة، تعتبر نفسها ماسكة لزمام السلطة. بيد ان هذه النقطة غائبة في مجادلات النقاد الديمقراطيين للتجربة السوفيتية. ان هذا تعبير عن المشغلة المناهضة للديكتاتورية للليبرالية البرجوازية والتي تم تعميمها، دون طائل، على الطبقة العاملة. فمتى ما كان قادة النقابات الواقعية للعمال والقادة الفعليون لحركة اللجان المعملية وقادة الحركة الحزبية العمالية والمحرضين المحليين وقادة العمال، اي كل من حشد العمال وقادهم للانتفاضة؛ متى ما كان هؤلاء في السلطة، عندها ستقول الطبقة العاملة "اني في السلطة". ليس بوسع اية عملية لامعان النظر في مسالة ان كانت العلاقة بين هذه القيادة والجماهير ديمقراطية ام غير ديمقراطية ان تغير من هذه الحقيقة.
اما بالنسبة للبرجوازية التي يتوجب عليها، اساساً، من اجل ان تحكم، فصل ساستها من طبقتها وتسند اليهم منصباً في حكومة تظهر واقفة فوق المجتمع. بالنسبة للبرجوازية التي تفهم علاقتها برجالات الدولة هؤلاء فقط عبر انتخابات تقام دورياً، فان معارضة القيادة بالطبقة لها مكانة. لكن ان يحول امرء ما هذه الالية التي تبدوا ديمقراطية الى اساس لتقييم ديكتاتورية البروليتاريا، فانه يرتكب بعمله هذا خطأً فادحاً. ذلك ان الديمقراطية البروليتاريا ليست امتداداً للديمقراطية البرجوازية وتوسيعاً لها. انها نوع اخر مختلف؛ كما ان لها الياتها الخاصة المحددة في اقامة الصلة بين الجماهير والقادة. لذا، فكومونة باريس، وفقاً لحسابات هؤلاء النقاد، غير ديمقراطية بتاتاً.
يعتبر فهم الية صراع الطبقة العاملة واليات علاقة الجماهير العمالية بقادتهم احدى الاقسام الاساسية لابحاث الشيوعية العمالية التي تقف كلياً بالضد من التصورات البرجوازية السائدة حول الديمقراطية والعلاقات الديمقراطية. وتتجسد الهوية السياسية للطبقة العاملة، بصورة اساسية، عبر اداة قيادتها الطبقية وعناصرها الطليعية.
يعتبر اضراب عمال المناجم البريطانيين مثالاً بليغاً جداً. فقد ادعت البرجوازية ان قرار قيادة (N.U.M (غير ديمقراطي طالما لم يتم التصويت عليه من قبل العمال؛ بينما تبين احداث عام من الصراعات الباسلة لعمال المناجم بان هذه النضالات كانت زاخرة بالديمقراطية والممارسة المباشرة لسلطتها. انها الارادة ذاتها للاغلبية الساحقة من عمال المناجم والتي انعكست في قرار (N.U.M ( بمواصلة الاضراب.
اما حول مسالة التصويت في النضال العمالي، فثمة نقطة اخرى يجب ان اشير اليها. لاتحتل هذه الالية اية مكانة مهمة في النضال العمالي طالما انها لاتعكس، بصورة صائبة، وحدة العمال وقوتهم المنظمة؛ كما ليس بمقدورها تعزيزها. تكمن قدرة العمال في تجمعهم؛ في صنع قرارهم جماعياً وبث المعنويات في افئدة بعضهم البعض عبر التعبير العام عن التضامن الميداني والمساهمة في الاعمال المشتركة. فلو ادلى العمال باصواتهم، بصورة منفردة، عندها ستظهر الطبقة العاملة اقل حسماً في اتخاذ القرارات واقل شجاعة واقل مقاومة عما هي عليه فعلاً؛ كما يمكن ان تظهر لاحول لها ولاقوة. ففي ممارستهم وفي صلب تجمعاتهم، يعبر العمال عن رايهم الحقيقي. اما كافراد معزولين، فستسحقهم سلطة الراسمال؛ ويفقدون معنوياتهم ويغيب الافق القتالي اللازم لاتخاذ القرارات الجريئة.
تعتبر خصوصيات العلاقات الداخلية للطبقة، وبالاخص علاقة الجماهير العمالية بقادتها وطليعييها منبثقة عن جملة عوامل:
اولاً، المكانة الانتاجية والاجتماعية الموضوعية. ذلك ان العمال مجردون من الملكية، فيما يقر المجتمع البرجوازي بالفرد على اساس الملكية وعلاقته بالراسمال والبضاعة. تعتبر ملكية الراسمال مصدراً للسلطة، السلطة التي يعترف بها المجتمع الراسمالي رسمياً على شكل حق التصويت. في الحقيقة، لقد انتقلت الديمقراطية البرجوازية من حق التصويت المحدود والمقصور على الطبقات المالكة ومالكي رؤوس الاموال والثروة الى حق التصويت العام. في هذا النظام، اذا نال العمال حق التصويت، فان ذلك فقط عبر افراغ "حق التصويت" من اي معنى اجتماعي واقعي ومن اية علاقة مباشرة ب"المشاركة في السلطة". يلائم التصويت العلاقة الداخلية للاوليغاركية المالكة للراسمال؛ بيد انه ليس الوسيلة الملائمة لممارسة السلطة من قبل تلك الطبقات المجردة من الاسس المادية لممارسة سلطتها عبر التصويت. فالعامل الفرد لاقيمة له؛ لا يتمتع باية قدرة؛ اما الفرد البرجوازي، فيمتلك وفقاً لراسماله سلطة فعلية.
لذا، على المرء ان يتسائل اين تكمن قوة العمال؟ وكيف يمارسونها؟ وما المكانة التي يحتلها التصويت الفردي في هذه الالية؟ تكشف قوة العمال عن نفسها بالحركة الفورية والعلنية والمنظمة وفي حركتهم الموحدة. يحتل التصويت مكانة محدودة في تشكيل هذه الحركة. اما المحور الاساسي فهو القيادة والتحريض وصحة السياسات والشعارات التي ينبغي حشد العمال حولها. ان ذلك هو السر الذي يقف وراء ان ٩٩٪ من الحالات التي يلجأ فيها العمال الى النضال المنظم والموحد، فانهم يفعلون ذلك دون التماس الاراء عبر التصويت. وتتخذ هذه الحركة الموحدة، اساساً، شكلها عبر حركة العناصر الطليعية وقدرتها على الاقناع وصفاء رؤيتها وحسها الرشيد وعملية سياستها. انها نفس العوامل التي تحدد العلاقات الداخلية للعمال.
ثانياً، ان العمال طبقة مضطهَدَة. يواجه نضالها، بخلاف النشاط القانوني والبرلماني للطبقة البرجوازية، بقوة قمعية وخارجية الا وهي الدولة. وتتخذ الحركة السياسية للعمال مباشرة دينامية معركة. ويتحول معسكر العمال، بصورة لامناص منها، الى صف مقاتل منتشر استعداداً للحرب. ان العامل، ومن اجل ممارسة ارادته، ليس لديه الفرصة لجمع الاصوات الفردية وعدّها. ففي مجرى ممارسته، وعبر التقييم المستمر لقدرته في اداء مهام الصراع، يصبح مدركاً للاراء الفردية داخل صفه. ان القائد البرجوازي يقود، دون مهابة، مادام يمتلك ناصية البرلمان. اما القائد العمالي الذي ليس بمقدوره ان يقدر مزاج جماهير طبقته والمشاعر السائدة في صفوف العمال، ويقدر قوة طبقته، ومن ثم يصوغ قراره. فاذا ما اصاب في تحليلاته وتقييماته، فان قراره سيلبي طموحات الجماهير العمالية ورغباتها؛ والا ستجعله المؤشرات والسمات العملية للصراع يعيد النظر بقراره.
على اية حال، اود ان اقول ليس بالامكان، كما يجب ان لاتستخدم المقولات المستقاة من الديمقراطية البرجوازية والتي هي في احسن الاحوال تحدد علاقة البرجوازي بطبقته، في تقييم العلاقة بين الجماهير العمالية وطليعييها. يجب تقييم الحكومة العمالية في روسيا حسب مقولات ومعايير عمالية لا عبر تعميم مفاهيم الديمقراطية البرجوازية.
في ثورة اكتوبر، كانت انتفاضة العمال دلالة على تاييد العمال الواسع للبلاشفة. ان انتفاضة اكتوبر، لا انتخابات الجمعية التاسيسية، مثلت التصويت الحقيقي للعمال. وعلى اي مفسر اشتراكي لثورة اكتوبر ان يقيِّم اهمية هذه النقطة، ويحكم على دولة العمال وحزبها طبقاً لعلاقتهما الواقعية بالعمال لاعلى اساس القوالب الشكلية التي تجسد هذه العلاقة.
يورد البعض، غالباً، ملاحظة حول التجربة السوفيتية مفادها بغض النظر عن المصاعب الاقتصادية، "يجب ان تكون بنية الدولة ديمقراطية". ان هذه الملاحظة صحيحة بذاتها. لكن دعني ارد قليلاً حول الديمقراطية البروليتارية وعلاقة الاقتصاد بالسياسة في عصر ديكتاتورية البروليتاريا.
ليس ثمة ديمقراطية اكثر راديكالية من تلك التي لاتألوا جهداً في ازالة الاسباب المادية لغياب الديمقراطية. ان هذه "الديمقراطية" التي اعدت لكي تتقبل بقاء راسمالية الدولة، شريطة ان "تبقى الدولة ديمقراطية" ليست، برايي، "ديمقراطية". يتمثل مجمل طرحي في ان مجادلاتنا لاتقف بالضد من نقد نقوصات الديمقراطية في المجتمع الروسي فحسب، بل تقدم النقد الحقيقي الوحيد لمسالة الغاء الديمقراطية هناك. انه لوهم وتصور تافه ان نفترض ان بمقدور العامل ان يكون مضطهَداً اقتصادياً في دولة تضطهده، وتبقى الطبقة العاملة طبقة مقتدرة وسائدة سياسياً. ولاتترك راسمالية احتكار الدولة، اي العلاقات الانتاجية في مثل هذا النظام، ادنى مجال للممارسة الديمقراطية لارادة العمال. فاذا، ما اعتقد شخص ما بامكانية صيانة الراسمالية وفي الوقت ذاته توسيع المؤسسات الديمقراطية للحكومة العمالية ايضاً، فان عليه ان يرد على طرحنا. واذا ما اراد امرء ما ان يكون للمنتجين المباشرين، العمال، سلطة لصنع القرار على جميع الاصعدة، يجب ان يعلم ايضاً وجوب الغاء الاخضاع الاقتصادي للعمال حتى في "راسمالية الدولة".
لقد قيل "يجب ان لايعطى تفسير احادي الجانب لهذه المسالة. لماذا تجعلون، وبصورة احادية الجانب، القضية الاقتصادية محور الموضوع". نحن لانجادل بصورة احادية الجانب. انه التاريخ الروسي نفسه الذي حددت مصيره المسائل الاقتصادية لديكتاتورية البروليتاريا. فاذا ما سُئِلَ امرء ما قبل حدوث هذه الثورة عما يمكن تكونه ظروف انتصار الثورة، سيورد عواملاً عديدة لذلك. ولكن اذا ما سُئِلَ، بعد الثورة، عن اسباب اخفاقها، عندها يجب عليه ان يصوغ اجاباته على اساس تلك المسائل التي هي محورية في هذا التاريخ. فثمة من يدعي بان العمال، اساساً، لم يستحوذوا على السلطة قط. نحن نعتقد خلاف ذلك. لقد استولى العمال عليها؛ ولكن ما حال دون تكوين اشكال جديدة لحكم العمال؛ وادى في المطاف الاخير الى فقدان السلطة من بين ايدي العمال هو بقاء واستمرار العلاقات التي اصبحت اساس للتطور الاقتصادي للمجتمع والتي ابقت العمال تحت نير العمل المأجور. ولم تترك راسمالية الدولة، التي فيها تقوم وزارة معينة للتنمية بوضع خطة معينة فيما تقوم دوائر حكومية اخرى بتنفيذها، مجالاً لبقاء السلطة الفعلية لسوفيتات العمال الا شكلياً وفي قضايا ثانوية مثل الشؤون المدنية، الثقافية والقضائية وغيرها. ان الطريقة التي كان من الممكن للعمال ان يمارسوا سلطتهم، كما يرغب اؤلئك الذين يطالبون بتركيب ديمقراطي واسع لديكتاتورية البروليتاريا، اي سبيل ممارسة السلطة الطبقية الواسعة ممكن فقط عبر ممارسة السلطة الاقتصادية الواسعة. حيث ان مكانة الجماهير العمالية داخل العلاقات الاجتماعية الاقتصادية هو الذي يحدد مكانتها في البنية السياسية. ففي منتصف العشرينات، تعتمد صيانة السلطة بيد الطبقة العاملة وتقدم الثورة العمالية، كلياً، على ما يجري في العلاقات الاقتصادية السائدة في المجتمع. في الحقيقة، مازال العمال، في تلك السنوات، تحت وطأة العمل المأجور يفتقدون الى ادنى سيطرة على ادوات الانتاج وصنع القرار الاقتصادي؛ كما انهم يشكلون عصب تضحيات التي قدموها امام هجمات البرجوازية. لكن لوشارفت هذه المرحلة على نهايتها بسيادة تشريك الانتاج والغاء العمل المأجور والمصحوبة بتنظيم اقتصادي جديد على اساس مجالس العمال، عندها لن يصان حكم العمال فحسب، بل ستتطور بنية الدولة العمالية ايضاً بموازاة ذلك الاقتصاد الجديد؛ وستستند الى النماذج الملائمة لاكثر اشكال ديمقراطية البروليتاريا سعة والممارسة المباشرة للسلطة من قبل الجماهير العمالية. ففي منتصف العشرينات، مازالت هذه القضية غير محسومة. وفي اشكال النقد الديمقراطية، فان مجرد وجود الانحرافات الادارية في الحزب والدولة او الاخطاء الايديولوجية كافية لشطب هذه الامكانية ولانكار اية امكانية للتطور المؤزر للثورة. نحن لانشاطر اصحاب هذه النظرات الراي.
خلاصة قولنا، لقد استولى العمال في ثورة اكتوبر على السلطة السياسية. لقد تم صيانة الدولة من الهجمات العسكرية والسياسية للبرجوازية والمقاطعة الاقتصادية على حساب تضحيات الطبقة العاملة وطليعييها وعقد المساومات والتنازلات المتعددة (لم تكن سياسة النيب سوى احداها). ولكن في المرحلة اللاحقة، ما ان حُسمت مسالة السلطة السياسية، وطرحت على بساط الواقع مسالة التحويل الاشتراكي للمجتمع، لم تستطع البروليتاريا مواصلة ثورتها. وايدت ذلك النمط من التطور الاقتصادي الذي لم تكن عواقبه سوى الاخضاع الاقتصادي للعمال؛ واستمرار علاقة العمل- الراسمال وديمومة البيروقراطية كاسلوب ملائم للاساس الاقتصادي والحل المنظم للسوفيتات والهيمنة الفكرية للنزعة التحريفية المطابقة لتلك العلاقات الجديدة. وبكلمة واحدة، تحولت تلك المساومات السياسية الى تفسخ سياسي واداري دائب ومنظم قوض معه حكم العمال. يمكن طرح السؤال، وفي الواقع تم طرحه هنا، هل كان ممكناً اساساً القيام بمثل ذلك التحويل الثوري للعلاقات الاقتصادية التي بوسعها، في الوقت ذاته، ان تلبي انتاج الحاجات اليومية والمتطلبات الجارية للمجتمع؟ برأيي، يجب على شيوعيي اليوم إيلاء هذا السؤال اهتمامهم. هل ان هذه المهمة ممكنة التحقيق؟ أيجعل المسعى الشيوعي هذا الامر ممكناً ام أُصدر حكم الهزائم المتتالية للعمال حتى بعد استلام السلطة؟ لم تكن، برايي، الثورة الاقتصادية امراً وارداً فحسب، بل ضرورياً جداً لتلبية حاجات المجتمع المادية. يتمثل جوهر الماركسية في: عند حلول ازمة الراسمالية، فان الاشتراكية فقط بوسعها ان تعبد السبيل نحو تطور قوى الانتاج. فيما يجب ان تُحَدَدْ بشكل ملموس هذه الاجراءات والخطط. اي يجب تقديم لوحة مفصلة وشاملة اكبر للملكية العامة والانتاج الاشتراكي المبرمج. ينبغي اعطاء تصور ملموس للملكية الاشتراكية والانتاج طبقاً للبرنامج الاشتراكي. ونظراً لانعدام مثل هذا الافق لدى البلاشفة، لهذا بحثوا عن هذا السبيل لتطور قوى الانتاج في راسمالية الدولة. واذا ما وُجِدَ يوماً ما تبرير لنقص البلاشفة هذا، فبالنسبة لشيوعيي اليوم الذين شهدوا عمل راسمالية الدولة في بلدان مختلفة عليهم ان يزيلوا هذا القصور بعد الان.
ان تعريفاً لديكتاتورية البروليتاريا، والذي اتفق معه كلياً هو: "ان ديكتاتورية البروليتاريا يجب ان تكون الدولة التي يقوم فيها المنتجون انفسهم، اي العمال، بتشكيلها". حسناً، لكن مثل هذه الدولة لايمكن تشكيلها الاعلى اساس علاقات اقتصادية خاصة. ولايمكن تشكيل المؤسسات السياسية لمثل هذه الدولة وانجازها، ومن ثم تتبعها مسالة علاقات الانتاج بصورة منفصلة. بيد ان العملية نفسها التي تحسم مسالة الانتاج والعلاقات الاقتصادية هي التي تحدد بنية وتركيبة الدولةومكانة الجماهير فيها. واذا ما قبلنا بان على الطبقة العاملة ان تتحكم بالانتاج وتديره جماعياً، ذلك الانتاج المنتشر على امتداد البلاد في وحدات اقتصادية مختلفة، عندها علينا ان نقبل ايضاً ان تركيباً محدداً ضروري لان يصهر السلطة السياسية والادارية التي تعمل عبرها المنظمات الجماعية للعمال على مستويات مختلفة من القاعدة الى القمة كاقسام لهذه الدولة.
في الثورة البروليتارية، لن تكون لدينا مرحلة تتحدد فيها بدءاً وتترسخ، بغض النظر عن الطريقة التي تمارس بها السلطة الاقتصادية، بنية ديمقراطية لممارسة السلطة السياسية للطبقة العاملة وتدخل الجماهير العمالية والافراد؛ ومن ثم تمتد ممارسة هذه السلطة الى الميدان الاقتصادي. مادام لم تُعهد ادوات السلطة الاقتصادية الى ميدان سلطة المجالس، عندها لن تصبح المجالس الهيئة الدائمة لممارسة سلطة العمال السياسية الادارية. او على اية حال، سوف يُبعد العمال خارج الميدان الفعلي للسلطة المباشرة. ان علاقة العمال بادوات الانتاج هي التي تحدد التركيبة النضالية الملائمة للعمال (بالاضافة الى الحكم). فعلى سبيل المثال، تلائم النقابات العمالية الطبقة العاملة التي ترى في التحكم بادوات الانتاج بيد حزب خارج عنها وتعمل له. وان مجالس العمال الماسكة لزمام السلطة هي المنظمات الملائمة للطبقة العاملة التي سيطرت عبر التحكم، بصورة فعالة، على الاقتصاد؛ ومارست سلطتها على الصعيد المحلي. على اية حال، اذا ما طالب امرء ما باقامة بنية ديمقراطية لديكتاتورية البروليتاريا، فان عليه ان يدرك بان هذا يفترض وجود الملكية العامة والغاء العمل المأجور؛ كما يستلزم تشريك علاقات الانتاج والقضاء على الراسمال كعلاقة اجتماعية سواء أكانت بيد الافراد ام الدولة.
في حالة روسيا، في الوقت الذي اصبحت فيه ضرورة طرح مثل القضايا اعلاه، كانت الفترة نفسها التي تحدد فيها ايضاً مكانة الطبقة العاملة وموقعها الاجتماعي، اي عندما ترسخ انتاج وملكية الدولة على اساس العمل المأجور. لقد حدد هذا التطور، بصورة لامناص منها، الموقع السياسي وملامح الطبقة العاملة وموقعها في النظام السياسي والاداري في المجتمع. ومن المحتمل ان هذه العملية التي لايمكن القفز فوقها قد استغرقت سنوات حتى تصل الى خاتمتها المنطقية. لم يكن ثمة شك حول ما ستؤول اليه هذه النهاية المنطقية والتي تتمثل بالحرمان السياسي للطبقة العاملة ومصادرة دورها السياسي والقضاء على الدولة العمالية التي اوجدتها ثورة اكتوبر.
نحن لاننكر ان الثورة الروسية قد تعرضت للتفسخ كما عانت التراجع السياسي. لكن ما يعنينا هو توضيح المكانة الحقيقية لهذه الشواهد عند تحليل اسباب هزيمة الثورة الروسية. ووضعنا، في طرحنا هذا، جل تاكيدنا على معضلة التحويل الاقتصادي للمجتمع الروسي. كما اشرنا الى ان السبب الرئيسي لهزيمة الثورة العمالية في روسيا يتمثل بعجز الحزب والطبقة الطليعيين عن ان يعصفا بجذور النظام الاقتصادي القائم وان يقوما بقلبه. قد ينتقدوننا وذلك لعجزنا عن تقييم المسالة؛ ووجوب البحث عن السبب الرئيسي لهذا العجز في الساحة السياسية وتقهقر الحزب وحكومة العمال. كما قد تُطرح المسالة بان ظهور البيروقراطية واضعاف الديمقراطية داخل الحزب وتهاوي سلطة العمال والمنظمات الجماهيرية امام سلطة الحزب والدولة والمساومات المستمرة التي عقدتها مع مؤسسات المجتمع القديم وضغوطات البرجوازية كانت، فعلاً، العوامل التي جردت، بحلول عام ١٩٢٤، الطبقة العاملة، فعلياً، من اي فرصة لان تحرز اي تقدم على الصعيد الاقتصادي. هذا هو الاعتراض الاول. اما الاعتراض الاخر الذي من الممكن ان يثار هو ان لاتتمثل مهمة البروليتاريا اساساً بالانتقال الى مرحلة التحويل الاقتصادي على الاطلاق؛ ذلك ان قضية ذلك العصر الاساسية تتمثل بالمحافظة على الدولة البروليتارية وصيانة نقاوتها والتزامها بالمباديء ومد يد العون للارتقاء بالثورة عالمياً. وبهذه الطريقة، بامكان الاقتصاد السوفيتي ان يتخذ شكل راسمالية دولة او اي شكل اخر. بيد اننا لانشاطر كلا الفهمين رايهما. لقد اسهبت بالحديث عن الاعتراض الثاني. برأيي، ان ذلك الراي يعادل تعاملاً ذهنياً وترفعاً عن الرد على المعضلات المادية والحقيقية لثورة اجتماعية معينة. لايمكن لاي انتظار، حتى وإن كان انتظاراً ايجابياً فعالاً، للثورة العالمية ان يكون بديلاً عن تقدم ثورة معينة في مرحلة تاريخية معينة. لقد طُرِحَتْ، وبجدية، قضية ما يمكن ان يكون عليه الافق الاقتصادي لروسيا في عام ١٩٢٤ ومابعده؛ كان تحدياً كبيراً يتحتم الاجابة عليه. لايمكن اعتبار رأسمالية الدولة او "اي شكل آخر" جواباً على هذه المعضلات. كانت مرحلة تاريخية استوجب فيها على الثورة العمالية في روسيا ان تصدر مرسومها الاقتصادي المحدد والا تواجه امكانية حتى فقدان سلطتها السياسية.
اما فيما يتعلق بالاعتراض الاول الذي يتمثل بوضع الاولوية التحليلية للانحرافات السياسية في خلق اسباب هزيمة الثورة العمالية، فعلي ان اتحدث بتفصيل اكبر. برأيي، ثمة فرق شاسع بين التفسخ السياسي والذي يعكس القاعدة المادية والاقتصادية والتي تعيد انتاج التخلف والبرجوازية وبين تلك الهفوات والنواقص والميول السياسية الممجوجة والتي لم تعُد انتاج نفسها بعد كظاهرة اجتماعية والتي تسببها، في الواقع، النواقص والضغوطات المرحلية والمصاعب الوقتية اوقوة العادة والتربية القديمة للصفوف المتقدمة من الثورة. لقد كانت هناك العديد من الهفوات السياسية والنظرية منذ اليوم الاول لثورة اكتوبر ١٩١٧. اذ يمكن مشاهدة عدة ميول غير مرغوب بها فيما يخص المساومات التي تم عقدها مع مؤسسات المجتمع القديم وتبلور البيروقراطية واضعاف الديمقراطية داخل الحزب وانعدام سلطات الهيئات المسؤولة عن الممارسة المباشرة للعمال والتنصل عن تعميق التحول السياسي في الحياة القانونية والثقافية للمجتمع...الخ.ولكن كل تلك الامور لاتقدم لنا قائمة باسباب هزيمة الثورة لانه طالما لم تبدأ بعد حينذاك معركة البروليتاريا الحاسمة من اجل التحويل الاقتصادي للمجتمع حيث بدات هذه المعركة في العشرينات. فلو عقد لواء النصر في هذه المعركة لبديل الملكية العامة والغاء العمل الماجور، اي البديل البروليتاري في الميدان الاقتصادي لروسيا، عندها لن تفقد هذه الميول السياسية والادارية الممجوجة الاسس المادية لبقائها فحسب، بل ستُجتث ايضاً، في مسرى التحويل الاقتصادي العميق للمجتمع، وستحل محلها الطرائق والاليات السياسية التي تطابق هذا الاقتصاد المتحول وهذا التطور الاوسع للثورة في اكثر ميادينها حسماً. ولكن اذا ماطبع البديل القومي الصناعي للبرجوازية افق التطور الاقتصادي لروسيا بطابعه، كما حصل في الممارسة، عندها فان هذه الهفوات والنواقص التي كان من الممكن ان تكون عوامل ثانوية وعرضية وغير حاسمة لمصير الثورة تتحول الى اقسام عضوية ولها القدرة على اعادة انتاج نفسها في البنية السياسية الفوقية. ومن هنا، فان تحول هذه الهفوات والنواقص السياسية والقانونية والادارية الى تفسخ سياسي كامل يستوجب، قبل اي شيء اخر، ان تكون مسالة الاقتصاد محسومة في صالح القاعدة الاقتصادية البرجوازية وفي صالح سبيل التطور الاقتصادي الراسمالي. وتعتبر البيروقراطية مثالاً بليغاً لتوضيح المسالة. حيث لجأت دولة العمال، تحت ضغوط وظروف ما بعد الثورة الى عقد عدة مساومات؛ فقد استفاد الجيش الاحمر من جوهر الجيش القيصري. اعيد بناء اقسام الدولة على اكتاف البيروقراطيين القدماء؛ فيما منحت الامتيازات الى فئات محددة من المجتمع من اجل استخدام مؤهلاتها التخصصية والادارية. تشير مجمل هذه الامور، دون شك، الى وجود ميول غير مرغوب فيها على المستوى السياسي والاداري. ولكن قبل بدء المجادلات الاقتصادية في العشرينات، كانت البيروقراطية ثمرة المساومات التي عقدتها الطبقة المتقدمة بسبب الضغوطات الخارجية المفروضة عليها. بوسعنا ان نعتبر هذه المساومات، جزئياً أو كلياً، مساومات محتومة لامناص منها، ولكننا لانشك في الحقيقة القائلة ان تلك النواقص قد فُرِضَتْ على القوة المتقدمة من الثورة.
بوسع المرء ان يجد عشرات الامثلة في مناقشات قادة البلاشفة؛ ففي الوقت الذي كانوا مدركين، فعلاً، لوجود هذه الميول غير المرغوب بها وقد عانوا منها وحاولوا اجتثاثها، فانهم بقوا يتحدثون عنها على انها مساومات مؤقتة وعابرة وتنتفي ضرورتها مع ترسيخ سلطة البروليتاريا. اما بعد العشرينات، اي ما ان ترسخ مجرى التطور الذي يستند الى راسمالية التخطيط الحكومي المستند الى العمل المأجور كأساس لحركة المجتمع الثوري؛ وما ان اصبحت رؤية البرجوازية القومية اساساً لاعادة الانتاج الاجتماعي، عندها لم تعد البيروقراطية ضغطاً مفروضاً أو نتاج المساومات المعقودة، بل اصبحت جزءاً عضوياً يعيد انتاج نفسه في البنى الفوقية السياسية. هنا، نتكلم عن البيروقراطية كمؤسسة فوقية تطابق القاعدة الاقتصادية للمجتمع كما تطابق دينامية تطور العلاقات التحتية. وتم اضعاف السوفيتات بعد اكتوبر لعدة اسباب؛ واساساً جراء ضغط الاوضاع الاستثنائية في تلك الفترة. ويبدو ان المؤسسات العمالية قد تم حشدها بمجملها حول تقوية حزب العمال والحكومة العمالية؛ وفي خضم هذا، تم اضعاف اشكال الاقتدار اللاحزبية والعمالية المباشرة. ولكن ما ان حُسِمَ مجرى التطور الاقتصادي في صالح الافق البرجوازي القومي، عندها يجب ان لانبحث عن سبب تفسخ السوفيتات او تغييبها وهيمنة البيروقراطية في الاوضاع الاستثنائية والمرحلية لتك الفترة. لقد مثلت البيروقراطية البنية الفوقية المطابقة للافق الاقتصادي لراسمالية الدولة التي ترسخت الان في المجتمع؛ ففي المرحلة الاولى، دعت الحاجات الملحة للاوضاع الى مركزة السلطة لكي تتمكن الدولة العمالية من التغلب على مصاعبها، مما ادى الى اضعاف السوفيتات. اما في المرحلة الثانية، توجب انكار السوفيتات كلياً كي يتطابق مع الية صنع القرار السياسي والاقتصادي في البلد طبقاً للمنطق البرجوازي للتطور الاقتصادي.
لذا، اننا نميز، بصورة كبيرة، بين الانحراف والنواقص في البنى الفوقية السائدة في المجتمع الروسي بعد الثورة مباشرة "على الاصعدة الايديولوجية، السياسية، الثقافية والادارية" وبين الانهيار السياسي لما بعد العشرينات. براينا، كانت النواقص السياسية للمرحلة الاولى وتلك النواقص التي في البنى الفوقية عوامل فرعية وثانوية؛ ولم تلعب اي دور حاسم في تحديد مصير الثورة الروسية. إذ يمكن تصحيح هذه الميول والنواقص واجتثاثها؛ ولايمكن اعتبارها شاخصاً مميزاً في تحليل الثورة العمالية. بعد العشرينات، وما ان غدا اخيراً المسار البرجوازي- القومي سائداً، حتى اصبحت هذه السمات الفوقية اجزاء عضوية يعاد انتاجها في النظام الاقتصادي والاجتماعي. بناءاً فوقياً، نفسه، يعكس السمات المميزة الاساسية للقاعدة الانتاجية.
لأوضح هذه المسالة من زاوية اخرى. اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار التقسيم الذي اكدت عليه في مقالتي "الدولة في المراحل الثورية"، ان تقسيم مرحلة ما بعد الثورة الى مرحلة ثورية بالمعنى المحدد للكلمة ومرحلة ديكتاتورية البروليتاريا، عندها بوسع المرء تبيان المسالة بالشكل التالي: في المرحلة الاولى، عندما كانت القضية المركزية للثورة هي ترسيخ الدولة العمالية الفتية، فُرضَتْ على الطبقة العاملة مساومات كثيرة. لم تكن هذه المساومات لااخلاقية ولامبدئية، بل كانت، ولحد كبير، نتاج مقتضيات فرضتها قوى العدو او المقاومة الضارية المستميتة التي ابدتها البرجوازية المحلية والعالمية؛ حيث تم فرض الانحرافات السياسية والادارية في هذه المرحلة على الحزب الطليعي رغم ارادته ورغبته. واجتازت الطبقة العاملة الروسية هذه المرحلة بنجاح على الرغم من جميع تلك المساومات. وبحلول عام ١٩٢٤، ارست الدولة العمالية دعائم سلطتها ضد مقاومة البرجوازية. لهذا السبب على وجه الدقة، اصبحت قضية ما يجب ان يكون عليه المحتوى الاقتصادي للثورة العمالية والمهام الملقاة على عاتق ديكتاتورية البروليتاريا القضية الاساسية للثورة؛ اي انجاز الثورة الاقتصادية التي بدونها، بلغة انجلز، يصبح الانتصار السياسي دون محتوى. لم تحدث الثورة الاقتصادية طالما لم تضع الطبقة العاملة وحزبها الطليعي مثل هذا الافق نصب عينيهما. لهذا، خرج البديل البرجوازي القومي- التصنيعي المتجذر والتاريخي لبرجوازية روسيا في القرن العشرين، والذي لم تفصل الاشتراكية الديمقراطية نفسها عنه بوضوح، منتصراً من هذه المرحلة من الثورة. لم تكن حصيلة هذه الاوضاع عدم اجتثاث هذه النواقص والاخطاء السياسية والادارية للمرحلة الاولى اوتعديلها نتيجة الثورة الاقتصادية الكبيرة التي كان بمقدورها اقامة الملكية العامة، بل ارتقت هذه النواقص والاخطاء الى مرحلة اعلى بعد هيمنة الافق الاقتصادي البرجوازي وترسخ بديل اقتصاد الدولة الذي يستند الى العمل الماجور في المجتمع الروسي. ان البيروقراطية وغياب الديمقراطية داخل الحزب وحجب سلطة السوفيتات وانهيارها اللاحق والغاء تحكم العمال و...الخ رُسِخَتْ بوصفها اجزاءاً ومكونات عضوية من هذا النمط الاقتصادي البرجوازي. والان يعاد انتاج هذه المشاهدات كبنية فوقية تتناغم مع العملية الاقتصادية الجديدة. ومن هنا، بمقدورنا الحديث عن تلك الميول التحريفية في البنية الفوقية السياسية والادارية في المجتمع الروسي على انها عوامل غير حاسمة في كلا المرحلتين. ففي المرحلة الاولى، كانت هذه العوامل ثانوية اذا ما قورنت بحاجة الطبقة العاملة الى اقامة سلطتها وحكمها الفعلي. اما في المرحلة الثانية، لم توجد هذه الميول لاول مرة، او من فراغ، بل انها نفسها حصيلة ونتاج انحراف سياسي اكثر تحتية واساسية، اي اختيار المسار البرجوازي لتطور المجتمع الروسي.
علي ان اذكر هنا عدداً من النقاط. اولاً، قد يجادلوننا حول سر اعتبار الانحرافات السياسية والايديولوجية للمرحلة الاولى اموراً يمكن قلبها وتغييرها. برأيي، اذا ما قبل امرء ما على ان ما كانت روسيا بحاجة اليه في الميدان الاقتصادي يتمثل بالثورة الاقتصادية؛ اذا ما قال امرء ما ان لمثل هذه الثورة امكانية موضوعية لقيامها في العشرينات، اي ثمة فرصة تاريخية لتحقيقها، عندها لن يواجه صعوبة في فهم ان بوسع مثل هذه الثورة ان تجلب معها انبعاث السوفيتات واحياء اكثر اشكال الديمقراطية البروليتارية سعة داخل بنية الدولة والحزب وافول الميول البيروقراطية.
بوسع التقدم نحو ارساء الملكية العامة والغاء العمل الماجور والاندفاع صوب فرض تحكم العمال الفعلي على الاقتصاد وصنع القرار الاقتصادي، مرة اخرى، ان يشدد من هجومه على بقايا اشكال التحكم البيروقراطية والبرجوازية في الميادين السياسية والادارية. ذلك ان المقاومة التي تبديها هذه الاشكال هي اضعف بكثير من مقاومة مجمل النظام السياسي والاداري للقيصرية والبرجوازية الروسية.
لنا خلافات جدية مع تلك النظرة التي تحكم على الثورة والديمقراطية البروليتارية بالاخفاق؛ وليس ثمة سبيل لعودتهما وذلك فقط بصعود ستالين الى السلطة واصدار مرسوم ما يمنع فيه حق التكتل او تعارض مفوضية شعب معينة مع نطاق سلطة السوفيتات او اللجان المعملية. ان حزباً، باخطاء كثيرة، بوسعه ان يخرج من المجادلات الاقتصادية في العشرينات وهو مكلل بغار النصر لوكانت ثمة انطلاقة قوية نحو ارساء الملكية العامة واشكال الانتاج الاشتراكية؛ وبذلك يضع الاسس المادية لازالة النواقص والاخطاء السياسية والادارية السائدة في البنية الفوقية للمجتمع. لايكمن سر الصعوبة في بقاء هذه النواقص والاخطاء في الحزب، بل ان النقص الاساسي يكمن في مكان اخر، اي تحديداً غياب الرؤية الواضحة لاشكال الملكية والانتاج الاشتراكي. من ذلك يستتبع اننا نخالف تلك النظرات التي تستند في تحليلها الى وجود الميول القومية التحريفية في الحزب البلشفي والمجتمع الروسي والتي تعزو تفسخ الثورة الروسية الى انه انعكاس للتفسخ السياسي للحزب او الانحطاط الاداري للدولة السوفيتية. بيد ان هذا التفسخ السياسي نتيجة للتفسخ الاقتصادي للثورة، لاسبباً له. وعليه، يجب ان يُفسَرْ كمآل حتمي لهذا التفسخ الاقتصادي. من جهة اخرى، نعتبر من الخطأ ان نعزي لخرق الديمقراطية في المرحلة الاولى للثورة،"اي مباشرة بعد اكتوبر"، نفس الاهمية التي يعزوها الاخرون. ان هذه رؤية ديمقراطية للثورة العمالية، دون شك. على الرغم من انه قد تم تبني اوسع الاشكال الممكنة للديمقراطية حتى ديكتاتورية البروليتاريا الا انه لم تكن هزيمة الثورة، اساساً، حصيلة اخفاق العمال الروس في هذا الميدان. فعلى الرغم من كل هذه النواقص، فقد اجتازت الثورة مرحلة حاسمة وهي مكللة بالغار. يجب البحث عن السبب الرئيسي للهزيمة النهائية للعمال في روسيا في الهزيمة الاقتصادية للطبقة في العشرينات. فلو نجحت الطبقة العاملة الروسية في احراز النصر في هذه المعركة الحاسمة الثانية، عندها لن ترقى نواقص المرحلة الاولى وصعوباتها الى بعض المصاعب المرافقة لمخاضات ولادة مجتمع جديد؛ وستوضع في مكانها المناسب؛ ولكانت اجتثت في تاريخ مابعد الثورة في روسيا.
قد تثار، هنا، اعتراضات اولاً في نقدهم لتأكيدنا حول مسالة التحول الاقتصادي؛ اذ يقال يجب ان يترافق التحويل السياسي والاقتصادي بصورة متزامنة "بموازاة احدهما الاخر". ان هذا سوء فهم لطرحنا. بصورة عرضية، يتمثل جوهر طرحنا في ان يسبق التحرر السياسي التحرر الاقتصادي. ولكن تكمن مجمل القضية في ان العامل الروسي قد احرزتحرره السياسي في اكتوبر ١٩١٧. حقق اهدافه السياسية المباشرة في الميدان السياسي حيث استولى على السلطة السياسية. بيد ان الطبقة العاملة لم تكن في السلطة حين انطرحت ادارة دفة المجتمع وتنظيم الانتاج الاجتماعي. اؤكد، مرة اخرى، لقد كانت الثورة البلشفية ثورة عمالية. حيث وضعت تلك الثورة العمال على ناصية السلطة وجعلت سلاحهم ضمانة حكمهم. ليس هناك ثورة في تاريخ الانسان قادرة حتى اليوم على نيل مثل هذا الانجاز.
وبالطريقة التي افهم بها ماركس ولينين، فان الاستيلاء على السلطة السياسية يسبق الثورة الاقتصادية. ان تقديم مناظرتنا على انها تعارض هذ الفهم مع الاشارة الى وجوب الشروع بالتحرر السياسي والاقتصادي " بموازاة احدهما الاخر" تعتبر عملية مخطوئة وغير مبررة. يمكن ان ياتي مثل هذا الفهم لارائنا، فقط، من تلك النظرة التي هي نفسها لاتؤمن بان السلطة السياسية قد احرزها العمال فعلاً. ومن هنا، فان في معارضتهم لنظرتنا حول ضرورة تثوير البنية الاقتصادية لصالح العمال، يضطرون للاشارة الى "ومع ذلك، ليست السلطة بيد الطبقة العاملة بعد". دعوني اؤكد هذه المسالة مرة اخرى. كانت السلطة السياسية بعد اكتوبر بيد الطبقة العاملة فعلاً. ولكن ما ان استولت على السلطة، فان الطبقة العاملة، كما هو حال البرجوازية، عبرت عن نفسها باساليب متنوعة ومختلفة. اما اليوم، فان السلطة السياسية بيد البرجوازية دون ان تكون لاي فرد برجوازي القدرة على ممارستها بشكل مباشر. لممارسة السلطة، فان لكل طبقة طرائقها المستقلة الخاصة بها والتي تعتمد كل منها على الاوضاع الخاصة بمرحلة محددة؛ فعندما يتحدث ماركس عن الديمقراطية البروليتارية، فانه يتحدث لا عن دولة عمالية منهمكة في حرب، دولة تشن قمع عسكري للمقاومة البرجوازية، بل عن النظام الاداري للمجتمع في مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا. وتتمثل مناظراتنا، التي تم التعبير عنها بوضوح ولاتترك مجالاً لسوء الفهم، بان السلطة السياسية قد استولى عليها العمال فعلاً؛ فيما حاربت الطبقة العاملة من اجلها وصانتها. ولكن، على وجه الدقة، في الوقت الذي وجب فيه استخدام هذه السلطة من اجل تحقيق رسالتها التاريخية الفعلية، اي تحديداً اسقاط كل نظام الملكية البرجوازي والعمل المأجور، عجزت الطبقة العاملة عن دفع خطاها للامام طالما لم تستخدم هذه السلطة من اجل مثل هذه السياسة.
زد على ذلك، قد يُطرح راي مفاده ان ظروف مابعد مرحلة الثورة كانت معادية للديمقراطية بحدٍ بحيث حتى لو وُجِدَ خط مبدئي داخل الحزب لتعرض للقمع. اولاً، نحن لانشارك هذه الاراء نظرتها. برأيي، لقد بولغ في مسالة المدى الذي "حُدِدَتْ" به "الديمقراطية" في هذه الفترة. ثانياً، اذا ما افترضنا صحة مثل هذا الادعاء، فعلاً، فاننا لانعرف وصفة جاهزة بامكانها ان تكفل الحماية المضمونة للميول السياسية ضد هذا القمع. بالاضافة الى ذلك، نعتبر ايضاً انه من الوهم الادعاء القائل بانه في ظل غياب الافق البروليتاري الواضح حول مستقبل اقتصاد المجتمع، فان مجرد الطلب بلامركزة السلطة وديمقراطية النظام بمقدورهما ان تكونا الضمانة لتصحيح مسار الثورة. ففي المراحل الثورية، تميل السلطة الى التمركز لكي تمثل الطبقة السائدة في الصراعات الاساسية في المجتمع. ان التشكي من "التيارات التي اغتصبت السلطة" هي، على الاطلاق، طريقة يائسة للادراك؛ والاسوأ من ذلك ان تعظ بانه كان عليهم ان يقوموا بهذا العمل وان تحل هذا الوعظ محل تفسير هزيمة الثورة. هنا، نود ان نجادل حول امكانية النصر الاشتراكي لا حتميته اذا ما اعتبرنا جميع هذه النواقص غير موجودة. على اية حال، ينبغي على كل ميل في ميدان الصراع الواقعي ان يحشد قواه للخروج منتصراً من هذا الصراع. نعتقد ان في عام ١٩٢٤، لم يكن للميل الاشتراكي حضور فعلي. واذا ما وجد هذا الميل، عندها ستتركز مناقشتنا حول كيفية توطيده وتقويته.
دعوني اقدم تفسيراً لقضية "إغتصاب الحزب للسلطة". اولاً، اود ان اذكر عرضاً، لم "يستول" احد على السلطة في الفترة التي شغلت بال النقاد الديمقراطيين للثورة البلشفية، اي تحديداً السنوات الاولى للثورة. كانت السلطة منتشرة وموزعة الى حد كبير تديرها محلياً مؤسسات مختلفة من العمال والكادحين؛ ذلك انه حتى لعدة سنوات لاحقة، لم يكن من الممكن توحيد قوانين الدولة وسياساتها وان يُضفى طابع موحد على المنظمات واسلوب صنع القرار في الميادين المختلفة وتوحيد ومركزة المحاكم والقوانين الجزائية؛ وان حتى قرارات مجلس السوفيت الاعلى لم تكن بالضرورة ملزمة محلياً وتقوم المجالس المحلية بتطبيقها. وخلاف مايرونه عبر نظارات الديمقراطية البرجوازية من مصادرة السلطة، فان تجربة السنوات الاولى للثورة هي تجربة تشريع السلطة وممارستها محلياً. كانت المشكلة في روسيا، ولفترة طويلة، تكمن في عدم وجود صيغة موحدة في المناطق المختلفة من البلاد لمجازاة الجناة وتنظيم القضايا الاجتماعية...الخ. لم تتجاوز السلطة الرسمية والمباشرة للحزب البلشفي الذي "اغتصب"ها، نطاق المدن الكبيرة. تكمن السلطة الحقيقية للحزب البلشفي في تشضيته للسلطة بين الجمعيات المحلية للعمال والجنود. كما لم ينظم البلاشفة، اساساً، اي سلطة مستقلة تقف بالضد من ممارسة العمال للسلطة قاعدياً. لذا، لايمكن الحديث هنا عن انتهاك "القمة" للجماهير؛ وهذا لايعني شيئاً سوى ديكتاتورية البروليتاريا. ان العمال الذين اطاحوا بالدولة البرجوازية؛ واستولوا على السلطة بصورة مباشرة؛ ومن ثم نظموا انفسهم باشكال مختلفة على الصعيد المحلي؛ قد اقاموا فعلاً ديكتاتورية البروليتاريا. لم تكن البنية القضائية والقانونية لسلطة العمال هذه قضية غير مهمة في تلك الفترة فحسب، بل من الناحية التاريخية لايمكن اساساً انهائها بسرعة في المرحلة الثورية. ومن هنا، ليست الدعاوى التي تطلق حول مركزة السلطة بيد الحكومة البلشفية امراً غير صحيح فحسب، بل لم تكن مثل هذه المركزة أمراً ممكناً اساساً. لقد كانت هذه المسالة نفسها مشكلة حقيقية للدولة ؛ وحتى لو اراد البلاشفة اغتصاب السلطة، فان العملية الثورية المادية والاوضاع التاريخية المحددة لايمكن ان تجعل ذلك امراً وارداً.
من هنا، لم تكن احدى التفسيرات لممارسات الحزب البلشفي، والتي اصبحت شائعة خصوصاً بعد تسلم ستالين للسلطة والتي تم تعميمها على المرحلة الاولى من الثورة، شيئاً سوى نتيجة للضغوطات التي مارستها الليبرالية الاوربية والبرلمانية البرجوازية على اليسار. اذ جراء هذا الضغط، انتقدت تيارات مثل اليسار الجديد وغيره الاتحاد السوفيتي بجعجعة الديمقراطية. لقد أُجبروا، في نقدهم للاتحاد السوفيتي على تقديم وصفات جاهزة ونماذج للديمقراطية من تلك التي تروق للراي العام البرجوازي لتلك البلدان التي يمارسوا الفعالية السياسية فيها. وتحت وطأة هذا الضغط، فان تياراً ما، الشيوعية الاوربية، حتى شطب عبارة ديكتاتورية البروليتاريا من برنامجه وسياساته. اما التيار الاخر الذي ابقى عليها، مستأصلاً محتواها ليحل محلها نموذج موسع من الديمقراطية البرجوازية، فيشكك في ديكتاتورية البروليتاريا الحقيقية التي اقامها العمال الروس. من المثير للاهتمام ان نفس اؤلئك الذين حين يتفحصون الدولة البرجوازية يتغاضون عن العلاقة غير الديمقراطية لمثل هذه الدول مع البرجوازية؛ وبوسعهم بسهولة ربط الانظمة الديكتاتورية البرجوازية مع البرجوازية، هم انفسهم يتطلعون الى دستور "ديمقراطي" حين يتعلق الامر بتشكيل دولة عمالية! في عصرها بالذات، اعترف كل من العمال والبرجوازية على حد سواء بالدولة السوفيتية بوصفها دولة عمالية. ليس بوسع اي امرء انكار السمة الطبقية لهذه الدولة. بل تكمن المسالة في مدى امكانية استمرارها. فمن الطبيعي، ان اؤلئك الذين انكروا، آنذاك، السمة البروليتارية لهذه الدولة، عجزوا عن ان يفوزوا بانصار لهم في ادعائهم حول حقيقة حية في عصرهم. لكن اليوم، وبعد سبعين سنة، عندما نُسي ذلك التاريخ الحي وتلك الحوادث الهامة التي مورست فيها ارادة العمال وغدت جزء من الماضي، تجد مثل هذه الادعاءات ارضية خصبة لتطرح نفسها. اذ يعرف الجميع في الماضي ان السلطة قد استولى عليها العمال في روسيا. بيد ان مانسمعه اليوم هو انعكاس للضمير المعذب بالاثم والثقة المفقودة بالنفس لليسار الراديكالي الذي لم يبقى ذلك الواقع الحي امامه.
بحلول عام ١٩٢٣، انهى المجتمع الروسي المرحلة الاولى من الثورة العمالية؛ اما السلطة السياسية للعمال فقد ترسخت، على الرغم من جميع المساومات والنواقص والعيوب، في انتصارها ضد المقاومة السياسية والعسكرية السافرة التي ابدتها البرجوازية. اما الان، فقد طُرِحَتْ تدريجياً المسالة الاساسية الاخرى للثورة الروسية والتي هي حسم قضية التحويل الاقتصادي للمجتمع تحت قيادة ديكتاتورية البروليتاريا. وقد حُسِمَتْ هذه القضية بحلول ١٩٢٨، بصورة نهائية في المجادلات التي تركزت حول "الاشتراكية في بلد واحد". اذ اصبح الافق الاقتصادي البرجوازي ومسرى التطور الاقتصادي الرأسمالي سائداً في هذه الفترة؛ ويُلاحظ، في الثلاثينات، حركة المجتمع العامة وهي تسير في هذا الاتجاه. اذ كانت القضية الاساسية في هذه المرحلة هي التطور البرجوازي للمجتمع الروسي؛ وبالتالي تمثل صراع العمال في مجابهة هذا التطور.
من الضروري ان نشير، في مسالة "الاشتراكية في بلد واحد"، بوضوح الى العديد من النقاط:
اولاً، برأينا، نظرياً، وبغض النظر عن مسالة الاتحاد السوفيتي، ان اقامة الاشتراكية في بلد واحد، اي اقامة العلاقات التي تستند الى الملكية العامة والغاء العمل المأجور، اي ما تصوره ماركس ان تكون الخطوط العامة للمرحلة الدنيا من الشيوعية، هي امر ممكن جداً. ليس ذلك وحسب، بل انه اساسي لتحديد مصير الثورة العمالية. لهذا، تعتبر اقامة الاشتراكية المهمة المباشرة والحيوية لكل طبقة عاملة تنجح في انتزاع السلطة السياسية في بلد ما. وتعتبر تلك النظرات مرفوضة وغير ماركسية تلك التي تشطب، ولإي سبب سواء أَكان "ضرورة الثورة العالمية" او "تخلف روسيا" أم "التمايز مع الستالينية والنزعة القومية" وغيرها، من جدول اعمال البروليتاريا التي استلمت السلطة في بلد ما مهمة ارساء الاقتصاد الاشتراكي الذي يستند الى الملكية العامة والغاء العمل المأجور وتقوم بتأجيله الى مرحلة اخرى.
ثانياً، براينا ان التمايز الذي حدده ماركس بين كلا المرحلتين من الشيوعية جلي وصحيح جداً والذي يخص مباشرة المهام الاقتصادية لديكتاتورية البروليتاريا. نحن لانعتبر الشيوعية (المرحلة العليا) امراً ممكناً في بلد بمفرده. ويتمثل السبب في ان السمات المميزة الاساسية لهذه المرحلة والتي هي: الوفرة الاقتصادية، التطور الهائل لقوى الانتاج، التثوير الاساسي لمكانة الانسان في المجتمع ومعها التحويل الجذري لقوانين الاخلاق القائمة، اضمحلال الدولة... وغيرها هي ظروف لانعتقد بامكانية تحقيقها داخل حدود اي بلد معين. على سبيل المثال، مادامت الحدود القومية قائمة وضرورة وجود خطوط فاصلة بين المجتمعات الاشتراكية والراسمالية، لايُعتبر اضمحلال الدولة مسألة عملية. ولكن الاشتراكية، كمرحلة دنيا من الشيوعية، ليست عملية ممكنة فحسب، بل ضرورية كما قلنا.
ثالثاً، علينا ان نؤكد على كون شعار "الاشتراكية في بلد واحد"، في المجادلات الاقتصادية التي جرت اواسط العشرينات داخل الحزب البلشفي، الاطار والراية لتصاعد النزعة القومية البرجوازية بالمعنى الذي اشرنا اليه سابقاً؛ ذلك انه مثّل الراية لسيادة البديل البرجوازي لتطور المجتمع في ميدان الانتاج واعادة الانتاج. وبكلمة اخرى، على الرغم من ان عبارة "الاشتراكية في بلد واحد" لاتحمل، بذاتها، اي انحراف، ومع ذلك فان "الاشتراكية في بلد واحد" راية حركة معينة، في فترة معينة، وفي مجتمع معين كانت الشاخص للحركة الضخمة المناوئة للعمال ودليل توقف الثورة الروسية وهزيمتها. نحن نشجب هذه الحركة كرافعة لواء البديل البرجوازي في المجتمع الروسي. وقبالة هذه التيارات، احتمى خصومها، الذين لاحظوا بوضوح اعادة احياء النزعة البرجوازية القومية تحت هذه الراية، بفكرة "الثورة العالمية". ويطرح هذا الاصطفاف نقاط تسترعي الانتباه. فمن الجدير بالملاحظة اشتراك كل من عصبة ستالين والمعارضة، على الرغم من اختلافهما، باسس مشتركة مهمة جداً. ففي المرتبة الاولى، لايرتكز، في الواقع، الاختلاف في الراي على كلمة "الاشتراكية"، بل على عبارة "في بلد واحد" ممايشير الى ان صيغة "الاشتراكية" بالنسبة للمعارضة لاتختلف في صيغتها عن تلك التي يتبناها الخط الرسمي لستالين. من الواضح ان ليس هناك من يتلمس اي اختلاف حول الاجراءات التي كان من الواجب اتخاذها تحت اسم الاشتراكية؛ ويبدو ان الجدل كان حول امكانية تنفيذ هذه الاجراءات "في بلد واحد". بينت الخطوة التالية للثورة الروسية كيف نجحت كتلة ستالين في تحقيق البرنامج الاقتصادي للمعارضة الموحدة (تروتسكي- زينوفيف)، وكيف جُرِدَتْ، بهذه الخطوة، التروتسكية من السلاح وللابد في مسالة البناء الاقتصادي للاتحاد السوفيتي. ولم يُنتَقَدْ تيار "الاشتراكية في بلد واحد" من منظور اشتراكي، ولم تُعارَضْ اشتراكية هذا التيار التي هي مجموعة من اقتصاد الدولة، التصنيع، تطوير القوى المنتجة في الوقت الذي تصون فيه نظام العمل المأجور، أو يجابه باي بديل اشتراكي. ولم يتم تمثيل البروليتاريا في صراع الخط الرسمي والمعارضة؛ كما لم تولى اي اهمية لتحذير انجلز حول ضرورة الثورة الاقتصادية بعد الاستيلاء على السلطة.
تفسر المسألة المذكورة اعلاه سر انتصار دعاة "الاشتراكية بلد واحد". ففي الوقت الذي بلغت فيه الثورة الروسية مرحلة حاسمة من مصيرها، اي مرحلة تحديد مصير الثورة الاقتصادية، لم يكن لدى المعارضة اي بديل في الميدان الاقتصادي. لم يكن بوسع برنامج "الثورة العالمية" ان يكون سلاحاً ماضياً في الصراع ضد البرجوازية التي قدمت تحت راية "الاشتراكية في بلد واحد" بديلاً حول اكثر مسائل المجتمع الحاحاً وحسماً فيما سقطت المعارضة ضحية انعدام صلتها وربطها بالتاريخ الواقعي للثورة العمالية في روسيا.
على اية حال، عندما ننظر الى هذه الفترة من تاريخ الثورة في ظل سياق تاريخي أوسع، بوسعنا ان نلاحظ ان برنامج "الاشتراكية في بلد واحد" كان فعلاً اطاراً لصعود البرجوازية الروسية الى السلطة من جديد. لقد جرى هذا الحدث بمعزل عن نوايا اؤلئك الذيم مثلوا هذا الخط في الواقع؛ فما ان اختير مجرى التطور غير الثوري الراسمالي حتى اهملت مسالة الثورة الاقتصادية وقُلصَتْ الى راسمالية الدولة والتخطيط. عندها، ختم خط ستالين سبيل التطور الثوري للمجتمع الروسي استمرارية الثورة العمالية في روسيا. اما فيما يخص المعارضة ودعاة قضية "الثورة العالمية" حينذاك، فقد مثلوا، في احسن الاحوال، الراديكالية داخل الحزب البلشفي، الراديكالية التي تلمست هذا الارتداد ولكن لم يكن لديها نفسها اي بديل مختلف، ولذا لجات الى مجرد المقاومة غير المجدية التي تستند الى برنامج سياسي ديمقراطي. ان مكانة المعارضة ناتجة، في الحقيقة، من ان هناك اقسام راديكالية من البروليتاريا، اقسام تشعر بالسخط لاضعاف السوفيتات والغاء تحكم العمال ونمو البيروقراطية وانخفاض المستوى المعيشي للبروليتاريا وغيرها؛ ولم يتم تمثيل هذه الاقسام كلياً اولاً، وثانياً، سارت خلف المعارضة كقوة لا اهمية لها تذكر. معارضة وقفت، نفسها، بوجه خط ستالين فقط على اساس برنامج محدود جداً وغير ثوري ؛ فيما كانت عاجزة عن تمثيل الراديكالية الفعلية للثورة، اي تطلع الثورة الاساسي نحو احداث تحويل هائل في العلاقات الاقتصادية.
دعوني، باختصار، اشير الى سمة اخرى في وجهة نظر المعارضة. اليوم، بالنسبة للكثيرين، ومن ضمنهم رفاق لنا، يعتبر ايمان المعارضة ب"ضرورة الثورة العمالية" و"استحالة الاشتراكية في بلد واحد" دلالة على "امميت"هم. لاتحمل هذه النظرة، برأيي، اي دلالة اممية خاصة. لماذا يُعتَبَرْ المرء الذي يعتقد بان مصير الثورة الروسية مرهون بالثورة الالمانية، وذلك ببساطة لان هذا البلد متخلف صناعياً، بالضرورة اممياً؟ ان الاممية تعني الايمان بالطابع العالمي للطبقة العاملة والدفاع عن الثورة العمالية في اية وفي كل بقعة من بقاع العالم؛ اي الدفاع عن تلك الثورات وذلك لطابعها العمالي. ولكن اذا توصل امرء ما، استناداً الى تحليله الملموس، لاستنتاج مفاده ان الثورة في البلد (أ) تعتمد، لاسباب مختلفة، على الثورة في البلد (ب) من اجل ان تستمر، فان ذلك لايدلل، باي حال من الاحوال، على ان ثمة شيء اممي في ذلك الموقف. هذا تحليل ملموس بامكانه ان يكون، ببساطة، في صالح الثورة في البلد (أ). بوسع المرء ان يكون أممياً ومع ذلك يقبل او يرفض مثل هذا التحليل الملموس حول العلاقة الحتمية بين الثورتين الروسية والالمانية. في الواقع، وفي حالة روسيا الملموسة، يتمثل بحثنا في ان الامتناع عن دفع وتقدم الثورة الروسية نفسها للامام ومواصلة الثورة البروليتارية لحد التثوير الاساسي لكل النظام الاقتصادي في روسيا، يعادل رفض الارتقاء بالعمال الروس بوصفهم قوة اممية فعالة ونشطة.
لكن ما يسمى بالموقف الاممي الذي اتخذته المعارضة، كما اشرنا سابقاً، كشف، في الحقيقة، مأزق الموقف النظري للمعارضة والارضية المشتركة التي تربطها مع الخط الرسمي فيما يخص الاشتراكية بالذات بمثابة منظومة محددة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية ومستلزماتها في المجتمع الروسي بعد الثورة. وقد تم اختزال كل موقف المعارضة الى الاطروحة القائلة بان الثورة في المانيا الصناعية هي التي بمقدورها ان تمنح الثورة البروليتاريا المستوى الحيوي من قوى الانتاج الضرورية لاقامة الاشتراكية. ان مثل هذه النظرة هي التي تنكر، مسبقاً، امكانية توسيع الثورة الروسية الى حد الثورة في الميدان الاقتصادي.
في الواقع، ان للثورة الالمانية مكانة حاسمة في استراتيجية البلاشفة؛ حيث كانت ارجحية حدوث هذه الثورة والامكانية التي بمقدور مثل هذه الثورة تقديمها للبروليتاريا الروسية نفسها احد اسباب افتقار الحزب البلشفي الى ايلاء اية اهمية تذكر لاتخاذ خطوات ملموسة لاحقاً فيما يخص مسالة التحويل الاقتصادي لروسيا نفسها. وقد ربط البلاشفة فعلاً مسالة تحقيق افقهم الاقتصادي المستقل بنجاح الثورة الالمانية. لهذا السبب ايضاً، فقد طُرِحَ النقاش بجدية حول الافق البعيد المدى للاقتصاد الروسي ما ان تيقنوا ان الثورة العمالية في المانيا ليست على الابواب على الاقل على المدى القريب؛ كما انه امر مفهوم ايضاً السبب الذي حدى بخط ستالين، تعارضاً مع الرؤية التقليدية في الحزب التي انتظرت حدوث الثورة في المانيا واوربا الى تحديد نظرية الاشتراكية في بلد واحد.
مما يؤسف له ان فكرة انبثقت في التقاليد البلشفية من التحليل الملموس لوضع ملموس في فترة معينة، تُرفع الان من قبل اقسام واسعة من اليسار الراديكالي الى حقيقة نظرية عامة حول استحالة التقدم الاقتصادي الاشتراكي في نطاق بلد بمفرده. لهذا، حل التصور المثالي، المدرسي والسلبي للثورة الاشتراكية محل الفهم الحي لماركس ولينين لهذه الثورة. الفهم الذي يعكسه تحذير انجلز الموجز الوارد حول مهام البروليتاريا بعد استلام السلطة (ومن ضمنها مهامها في كومونة باريس).
ومع ذلك، ففي مرحلة حاسمة من الثورة الروسية، وفي الوقت الذي كان يجب فيه معارضة البديل البرجوازي، فعلاً، بالبديل الاقتصادي للبروليتاريا، وفي الوقت الذي كان يجب فيه ان يترجم المرسوم الاقتصادي للثورة العمالية، اي التفويض بتشريك الانتاج والغاء العمل المأجور، الى سياسات اقتصادية، حقوقية وادارية واضحة تعارض رأسمالية الدولة المطروحة على هيئة اشتراكية. أُديرت المباحثات داخل الحزب البلشفي بقالب صراع القومية و"الاممية". فيما بهت بريق المجابهة بين الاشتراكية والراسمالية في روسيا ذاتها؛ ومن هنا، لم يتم اي اصطفاف حقيقي للقوى ضد الاتجاه القومي، وليس هذا فحسب، بل ان اخفاقهم في تقديم نقد اشتراكي للبديل الاقتصادي للاتجاه القومي، عبّد الطريق لهيمنة هذا الاتجاه في الميل البلشفي والدولة السوفيتية. ان نقداً اقتصادياً لم يعارض الاطار الراسمالي للخط الرسمي، بل قصر اهتمامه على سرعة التصنيع والعلاقة مع الفلاحين وماشابه ذلك. باختصار، لم تُناقش الموضوعة الاساسية للثورة البروليتارية التي هي الاقتصاد الاشتراكي في هذه المجادلات.
المجتمع السوفيتي الحالي هو مجتمع راسمالي. ليست صحيحة تلك الطروحات التي تتحدث عن نمط جديد للانتاج او اقتصاد وسطي انتقالي وغير ذلك. علاوة على ذلك، لاتماثل، برأينا، سمات الاقتصاد الراسمالي السوفيتي السمات السائدة في اوربا الغربية والولايات المتحدة. باعتقادنا، ان للراسمالية التي اقيمت وعُزِزَتْ باسم الاشتراكية، بعد الثورة العمالية، سمات معينة خاصة يجب ادراكها ودراستها، سيادة العمل الماجور وسيادة قوة العمل بوصفها بضاعة، تنظيم الانتاج الاجتماعي على اساس العمل الماجور، كل هذه السمات كافية للبرهنة على ان الاقتصاد السوفيتي هو اقتصاد راسمالي. لكن ما يجب توضيحه حول خصوصيات هذا الاقتصاد هو انه ذا طبيعة اكثر خصوصية من تلك السمات العامة للراسمالية. على سبيل المثال، ان مسالة تعدد وتوزع الرساميل والمنافسة، ماهي المنظومة التي في للاتحاد السوفيتي تسهل تشغيل القوانين والمقتضيات الاساسية للراسمال كقوانين موضوعية مادية، ماهي الاشكال التي شغلها جيش العمال الاحتياطي في هذا المجتمع، الطريقة التي يوزع بها فائض القيمة بين الاجزاء المختلفة لمجمل الراسمال الاجتماعي والفروع المختلفة من الانتاج ودور الاسعار والسوق في هذا الاقتصاد هي بعض القضايا التي يجب دراستها. وهنا لااود ان اخوض في هذه المسائل. هذا ميدان مهم جداً للبحث والجدل. وهنا يفي بالغرض تقديم وجهات نظرنا حول طبيعة الاقتصاد السوفيتي على شكل مناقشات حول هذه المسالة؛ انا والرفيق ايرج اذرين قدمنا، في مقالاتنا حول مجادلات سويزي بتلهايم[٣]، النقاط التي عليها ان توضح الخطوط العامة لموقفنا من المسالة.
ان الدرس الاساسي الذي يستخلصه اليسار الراديكالي من تجربة الاتحاد السوفيتي عموماً هو اما ذلك الذي يتعلق بمسالة "الديمقراطية" او حول ضرورة صيانة "النقاء الايديولوجي" للمرء. اذ يؤكد جميعهم كيف ان الهفوات النظرية بمقدورها ان تعبد الطريق لهزيمة الثورة؛ كيف ان نقض عنصر الديمقراطية في النظرية الاشتراكية، ومن هنا موقف اللامبالاة المتخذ من انتهاك الديمقراطية في العلاقات الحزبية اوداخل بنية الدولة، بوسعها ان تكون ذا عواقب وخيمة ومدمرة على الثورة البروليتارية. تعتبر هذه الاستنتاجات، إن لم تجرد من اسسها المادية والتاريخية، مهمة وقيمة دون شك. بيد ان هذه الاسباب لاتخاطب بعد المسالة الاساسية التي على شيوعيي اليوم ان يتعلموها من تجربة الثورة الروسية. اي السؤال ذاته الذي وضع انجلز كل تاكيده عليه على اساس تجربة الكومونة. ليس بوسع اية درجة من البناء النظري لنا نحن شيوعيي اليوم، او اية درجة من التمرس النظري، كما ليس بمقدور اية درجة من تطور الاخلاقيات والاساليب الديمقراطية في صفوفنا ان تكفل في فترة الثورة العمالية من ان يكون لنا حزباً قوياً وصلباً ومحكماً ووضوح رؤيته كما كان عليه الحزب البلشفي. بيد ان ما بمقدورنا ان نتحلى به، ولسوء الحظ ما لم يتمتع به البلاشفة بصورة كافية، هو الافق الاقتصادي الواضح للتحويل الثوري للمجتمع بعد الاستيلاء على السلطة من قبل الطبقة العاملة. ما ان تستلم الطبقة العاملة السلطة حتى يواجهها المجتمع، بصورة موضوعية، بهذا السؤال: ماذاستعملين بالسلطة؟ اذا لم تستخدم السلطة هذه في احداث ثورة في العلاقات الاقتصادية في المجتمع، واذا لم تقلب اساس الملكية والانتاج البرجوازي، واذا لم تستخدم السلطة السياسية للطبقة العاملة كاداة لارساء الملكية العامة والاشتراكية لادوات الانتاج والغاء العمل المأجور، واذا لم تستغل هذه السلطة لاحداث الثورة الاقتصادية التي تمثل جوهر الثورة الاشتراكية للبروليتاريا، عندها، فان اي نصر تحققه البروليتاريا سيكون مصيره الاخفاق؛ وعندها تصبح حتى الهيمنة الاقتصادية امراً مؤقتاً وعابراً؛ وفي سياق تاريخي اوسع، تصبح عنصراً غير حاسم وغير ذي جدوى؛ وهذا هو الدرس الاساسي للثورة العمالية في روسيا.
منصور حكمت و ايرج اذرين
[١] اشارة الى جلسة سابقة للكاتب تناول المسالة ذاتها.
[٢] ااشارة الى الدراسة المنشورة في مجلة "بسوي سوسياليزم" - صوب الاشتراكية - المجلة النظرية للحزب الشيوعي الايراني. المجلد الثاني، تشرين الثاني ١٩٨٥، المقالة تعتمد على احدى الحلقات الدراسية التي قدمها الكاتب.
[٣] اشارة الى المقالات التي كتبها الكاتب وايرج اذرين في العدد الاول من نشرة الماركسية ومسالة الاتحاد السوفيتي المنشورة في اذار ١٩٨٦.
ترجمة: فارس محمود
hekmat.public-archive.net #2500ar.html