ومن الشرارة، يندلع اللهيب!
جليل شهباز
gelilshahbaz@yahoo.com
علمنا
ماركس بأن كل الأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخية العظيمة لم تكن محض صدفة أو
وليد لصدفة معينة في التاريخ الانساني بل تعتبر دائما" ضرورات حتمية تولد من تراكم
وألتقاء كم هائل من الصدف في مكان معين وفي لحظة تاريخية معينة، وحينئذ تولد الحدث
العظيم. وهكذا فعندما تتفاقم التناقضات الاجتماعية من جراء مختلف أشكال الظلم
الاجتماعي فاما يؤدي الى اندلاع الثورات الاجتماعية الكبيرة مثل كومونة باريس وثورة
اكتوبر الاشتراكية العظمى والثورة الفرنسية أو الى الانتفاضات الجماهيرية كالتي
اجتاحت اوربا في خمسينيات القرن التاسع عشر أو الحركات الاصلاحية التي التي ناضلت
دوما"، منذ نشوء النظام الاجتماعي البرجوازي ولحد الان، من اجل مصالح اقتصادية او
سياسية او اجتماعية محدودة، أو تؤدي الى اندلاع حركات التحرر الوطني المناهضة
للامبريالية من اجل الاستقلال السياسي وتحقيق السيادة التي اجتاحت في اوائل القرن
العشرين واستمرت حتى سبعينيات نفس القرن في اغلب بلدان اسيا وافريقيا وامريكا
اللاتينية. وعلى هذا الأساس فأن تفاقم وتطور التناقضات بين مختلف القوى السياسية
والاجتماعية التي تحدث على اثر مختلف اشكال الظلم الاجتماعي، عندما تصل الى طريق
مسدود، أي عندما تعجز التاكتيكات النضالية والطرق، السياسية والسلمية من حل تلك
التناقضات فتلجأ تلك القوى الى استخدام العنف لحلها بقوة السلاح. وهذا لا يعني ان
كل ثورة اجتماعية او انتفاضية ثورية يجب ان تنجح وتحقق مختلف برامجها وأهدافها
الطبقية والثورية أو الاصلاحية حيث ان نجاح الانتفاضات والثورات مشروط بتوازن معين
للقوى السياسية والاجتماعية فإذا تم رجحان كفة ميزان تلك القوى الطبقة والاجتماعية
لصالح القوى الطبقية والاجتماعية الثورية حينئذ تكون الثورة قد انتصرت وبالتالي
سيتحقق كل الاهداف والبرامج الثورية التي اندلعت الثورة من اجلها، وبعكس ذلك ستكون
قوى الثورة المضادة هي التي انتصرت وستقمع الثورة بوحشية وستكون الزنزانات والسجون
والتعذيب الوحشي وأعواد المشانق من نصيب المناضلين الثوريين. ولكن متى يمكن للثورة
أن تنجح، في الحقيقة ان نجاح الثورة مرهون بتوفر كل من العامل الموضوعي والذاتي،
اما توفر العامل الموضوعي فهو امر متوقف على نشوء الوضع الثوري داخل المجتمع فعندما
تعجز الحكومة من ادارة المجتمع وعندما تتأزم الوضع السياسي داخل البلد المعني
وعندما تكون الجماهير مستعدا" للمبادرة بالقيام بالأعمال الثورية، فهذا يعني أن
الوضع الثوري قائم في البلد ومن الممكن أن يتحول إلى ثورة. أما العامل الذاتي
فيتوقف على درجة تنظيم القوى الثورية لنفسها ومدى قوة وصلابة وتماسك تلك القوى أمام
القوى المضادة بالاضافة الى مدى ادراك ووعي القوى الطبقية والاجتماعية برسالتها
التاريخية ومهماتها السياسية والنضالية وأساليب وتاكتيكات النضال الثوري. أما بهذا
الخصوص فقد تندلع الثورة بشكل عفوي ولكن بغياب العامل الذاتي ستكون نجاح الثورة غير
مضمونة وحتى إذا تمت الاطاحة بالسطلة السياسية الحاكمة فمع غياب العامل الذاتي قد
تحصد قوى اخرى ثمار نجاح الثورة.
وبناء" على كل المعطيات المذكورة فإن ما يحدث في تونس منذ أكثر من شهر ولحد الآن
تعتبر ثورة بكل معنى الكلمة وان هذه الانتفاضة الجماهيرية المجيدة لم تكن قط محض
صدفة او كنتيجة حتمية لقيام الشاب الكادح ( محمد بو العزيزي ) بحرق نفسه، بل إن ما
حدث كان نتيجة مباشرة وحتمية لتفاقم أوضاع الجماهير سوء" فعلى أثر ما يقارب من
خمسون سنة من الحكم الدكتاتوري انقسم المجتمع التونسي الى معسكرين فمن جهة تموضع
الجماهير العريضة وخصوصا" العمال والكادحين الذين يعيشون في ظل أسوء الظروف
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سوء"، حيث سيادة الفقر والبؤس والحرمان وشيوع
البطالة المليونية وانخفاض مستوى الاجور مقارنة" بمعدلات التضخم وارتفاع الاسعار
اضافة" إلى جشع الطبقة البرجوازية وخاصة" الطفيليين منهم ونزعتهم الشرسة للثراء
الفاحش والسريع بكل الوسائل والسبل الممكنة التي أدت الى نسيان واهمال برامج
التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأمر الذي ادى الى توسع انتشار ظاهرة البطالة
وخصوصا" بين الشباب وحملة الشهادات الجامعية، وبذلك فعلى أعقاب سوء الأحوال
الاقتصادية أصبح توفير لقمة العيش حقا" بالنسبة للمواطن التونسي مشكلة عويصة. أما
على الصعيد السياسي فإن دكتاتورية برقيبة وبن علي وعلى امتداد خمسة عقود من حكمهم
الأسود أدى إلى حرمان الجماهير حتى من أبسط الحقوق الأولية للانسان، حيث تم خنق كل
نفس حر وجوبهت كل حركة اعتراضية بالحديد والنار والزج بالسجون والمعتقلات وتم حرمان
الجماهير من حق التنظيم والاضراب والتجمع وقيدت الحريات الأساسية كحرية الصحافة
والتعبير عن الرأي، وبذلك فقد أصبح الحرمان الاقتصادي والقمع والاستبداد وسلب
الحقوق والحريات بمثابة العامل المشترك الأعظم بين أوسع الفئات الجماهيرية وخصوصا"
العمال والكادحين.. أما في المعسكر الآخر فقد تجمع فيه حفنة قليلة من اللصوص
والقتلة من أزلام النظام وأقارب الحكام وبعض الفئات الاجتماعية الذين حققوا ثرائهم
من خلال نهب المال العام وسرقة ثروات وموارد البلد.
وبهذا فبعد أن نخر الفساد والجشع والاستغلال الوحشي كل أركان النظام السياسي في
تونس تراخت القبضة الحديدية للنظام على المجتمع وتحول النظام الدكتاتوري القمعي لبن
علي الى نمر من ورق فكانت نسمة خفيفة كافية" لهدم ذلك النمر الورقي. ومن جراء كل
ذلك عجز النظام من ادار المجتمع وتزايد السخط الجماهيري ووصل الى حد أصبح معه حتى
أشد فئات الجماهير تخلفا" مستعدا" للقيام بمقارعة النظام فأصاب الالتهاب الثوري
معظم الأوساط الجماهيرية وكانت شرارة واحد كافية لتندلع اللهيب ولتحرق النظام
الدكتاتوري، وكان حرق ذلك الشاب الكادح لنفسه بمثابة تلك الشرارة وانتشر اللهيب في
كل أرجاء البلاد وعلى الرغم من كل وعود بن علي للقيام بالاصلاحات وقيامه بتغيير بعض
رموز النظام إلا أن ذلك لم ينطلي على الجماهير واستمر اللهيب في التوسع والقوة ومن
شدة اللهيب اضطر رأس النظام بن علي على ترك السلطة والهروب من البلد وتم القاء
القبض على الكثيرين من رموز السلطة وأقربائهم من الذين سرقو أموال الجماهير ومن
الذين لطخ أياديهم بدماء المناضلين والمعترضين ضد النظام.. إلا أن خدم البرجوازية
التونسية الذين يتألفون من بعض رموز النظام القديم وبعض القوى السياسية الرجعية
الوصولية من الذين أتاحت الفرصة لهم للمشاركة في السلطة السياسية، قد حاولوا إعادة
تنظيم أنفسهم فقاموا باعادة تشكيل الحكومة ونصبوا رئيسا" مؤقتا" للبلاد وأطلقوا
الكثير من الوعود للقيام بالاصلاحات واجراء الانتخابات خلال ستة أشهر ولكن جماهير
تونس لم ينخدع بتلك الوعود والاجراءات لأنهم يعلمون جيدا" إن سبب يؤسهم وحرمانهم
وفقرهم لا يكمن في تغيير الدستور أو اجراء بعض الاصلاحات أو حتى في تغيير شكل
النظام السياسي، بل يكمن في مجمل النظام الاقتصادي القائم على استغلال الانسان
وعبوديته المأجورة، ولذلك فإن الانتفاضة مستمرة وسوف لن تتوقف إذا ما تمكن عمال
تونس من تشكيل حزبهم الشيوعي العمالي لتصبح أداة" لنضالهم الطبقي والجماهيري وليكون
كفيلا" للقيام بتنظيم وقيادة الطبقة العاملة وكل الجماهير المعترضة نحو الاطاحة
بنظام العمل المأجور وأقامة الجمهورية الاشتراكية على أنقاضها بغية خلاص المجتمع
وإلى الأبد من كل أشكال الظلم الاجتماعي.