أية حكومة ستتمخض من الانتخابات الأمريكية في العراق؟
جليل شهباز
بعد أن تنتهي عملية الانتخابات في العراق ستعقبها بالضرورة تشكيل حكومة رجعية مغلفة بالشرعية الجماهيرية لكي تقود جماهير العراق بالسياط والعصا الغليظة وفق الإرادة الأمريكية وسياساتها اللاإنسانية لكي تمضي الإدارة الأمريكية قدما" في تنفيذ بقية حلقات مخططها على الصعيد العالمي.
ولكن أيا" كانت نتيجة الانتخابات، وأعني بذلك في حالة فوز أية قائمة كانت فإن النتيجة لا تتغير طالما أن الرأسمالية هي البنية الأساسية للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع، وبموجب ذلك فلا يمكن لأية قوة سياسية برجوازية أن تدير دفة الحكم إلا بمقتضى المصالح العمومية لرأس المال. وعلى هذا الأساس فإن الرأسمالية هي التي تحدد، وفق الشروط التاريخية التي يتم فيها عملية الإنتاج الاجتماعي، شكل النظام السياسي والقانوني المناسب لها وبما أن الرأسمالية في عهد الأمبريالية تواصل تقدمها تاريخيا" وفق نمطين من الشروط الاقتصادية والاجتماعية أي المركز المتقدم وأقصد بذلك الدول الصناعية المتقدمة التي تتميز بالاستقرار الاقتصادي وحد معين من الرفاه بفضل خصائصها الامبريالية، والمحيط المتخلف وأعني به دول العالم الثالث المتخلفة والتي تتميز بالتبعية الاقتصادية والخضوع التام لشروط الإنتاج الامبريالي وحرمان الجماهيري حتى من أبسط مقومات الحياة العصرية. وبهذا فإن الشكل السياسي والقانوني المناسب للحالة الأولى وفق الشروط التاريخية التي يتم فيها عملية الإنتاج هي الديمقراطية والنظام البرلماني وسقف معين من الحريات والحقوق في حين إن الأنظمة الدكتاتورية والاستبداد السياسي وسلب الحقوق والحريات هو الشكل السائد في الحالة الثانية. ولذلك فإن القوى السياسية والاجتماعية البرجوازية من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها حينما تمسك بالسلطة السياسية من خلال عملية الانتخابات سوف لا تستطيع أن تغير القواعد الأساسية والأصول العامة للحياة السياسية للنظام الاجتماعي البرجوازي ولذلك فمهما كانت المشاركة الجماهيرية واسعة في عملية الانتخابات ومهما كانت طبيعة وسلوك القوى والأحزاب السياسية التي تشترك في الانتخابات البرجوازية فإن طبيعة النظام السياسي سيبقى محددا" بالشروط التاريخية التي يتم فيها الإنتاج.
وطالما أن المسألة هي بهذه الصورة فلا مفر من حكومة استبدادية ولا بد أن يتمخض عن الانتخابات، تشكيل حكومة قمعية. ولكن لنرى معا" أي رداء سياسي ستلبسه تلك الحكومة.
لو أمعنا النظر قليلا" في مختلف القوائم الانتخابية والبرامج المرفقة بها فسوف لا نجد غير طغيان الطابع الديني والقومي على تلك القوائم والبرامج وبالإضافة إلى ذلك فإن مشروع دستور طائفي وقومي معد مسبقا" ليجعله الفائزون في الانتخابات دستورا" دائما" للعراق ومن ثم يديرون وينظمون المجتمع العراقي بموجبه وإذا أضفنا إلى كل ذلك مسألة انعدام بقية البدائل البرجوازية في ميدان المنافسة على السلطة.. فسيصبح من المؤكد بأن نتيجة الانتخابات محسومة مسبقا" لصالح القوى والحركات والأحزاب الدينية والقومية. ولكن مع كل ذلك يجب أن نسلط الضوء على العوامل السياسية والاجتماعية الأساسية التي يستمد منها التيار الديني ـ القومي موضوعيته وكل عناصر قوته ويجعله قادرا" على احتلال أكبر مساحة في الساحة السياسية العراقية وبالتالي تمهد الطريق أمامه للوصول إلى السلطة، ومن المؤكد إن تحليل تلك العناصر ستساعدنا على صياغة تكتيك المواجهة بشكل سليم.. وأهم تلك العوامل هي كالآتي:
1ـ الإرث الثقيل لآثار الاضطهاد القومي والديني الذي تركه النظام البعثي المقبور.. لقد تمكن النظام البعثي الدموي من استغلال التباين القومي والطائفي للمجتمع العراقي بمنهجية وتخطيط مدروستين بمنتهى الدقة لخدمة سياساته اللاإنسانية فضرب بمنتهى القسوة مراكز القوى الدينية داخل المجتمع ودق أسفين الشقاق بين مختلف المذاهب والأديان. ثم مارس سياسة التطهير العرقي بحق جماهير كردستان بمنتهى الوحشية والهمجية وإن الجرائم التي ارتكبها البعثي بحقهم لا يوجد نظير لها في التاريخ الإنساني، ولم يقف النظام البعثي عند هذا الحد بل، دخل في سلسلة من المعارك المتواصلة التي حصد أرواح مئات الألوف من العراقيين هذا ناهيك عن الآثار المدمرة لتلك الحروب على حياة المواطن العراقي.. أما بعد سقوط ذلك النظام البربري فكان الإرث الذي ترك ورائه ثقيلا" فأينما اتجه المرء فسيصطدم بأسوار عالية من النعرات والبغض والكراهية والأحقاد القومية والدينية ومع غياب السلطة المركزية وسيادة القانون وشيوع حالة الفوضى وظاهرة البطالة المليونية وانخفاض مستوى معيشة المواطنين إلى ما دون خط الفقر وانعدام الأمن والاستقرار، فكان أمر طبيعيا" أن يتحول كل ذلك إلى أفضل بيئة سياسية واجتماعية لظهور ونمو مختلف الزمر والمجاميع الدينية والقومية من مختلف المشارب والتلاوين ولتكون بمثابة أفضل بديل سياسي لقيادة المجتمع العراقي وفق المصالح الأمريكية في ظل الأوضاع الحالية للعراق.
2ـ خضوع المجتمع العراقي للاحتلال العسكري الأمريكي والتأثير المدمر للسيناريو الأسود.. كما هو معلوم بعد سقوط النظام البعثي الفاشي خضع المجتمع العراقي لحالة الاحتلال العسكري الأمريكي وتم فرض سيناريو أسود، خطط لها في البيت الأبيض ودهاليز البنتاكون، على المجتمع العراقي وعلى اثر ذلك اندلع حرب رجعية في أقصى حدود الوحشية والبربرية بين قوات الاحتلال ومختلف المجموعات والزمر الإرهابية الإسلامية والقومية وأصبح أكثر الأماكن ازدحاما" بالسكان المدنيين من أهم ساحات معاركهم. ومن جراء كل ذلك فقد خلق وضعا" أصبح فيه المواطنين مسلوبي الإرادة وغرق، المجتمع العراقي بأكمله في دوامة سياسية غير معلومة الملامح والاتجاه، وفي مستقبل مظلم لا يعلم أحد كيف سيكون الغد بالنسبة له ولأطفاله وتلاشت فرص النضال الجماهيري في فرض أي من مطالبهم الإنسانية مهما كان بسيطا" وذلك لغياب دور الدولة داخل المجتمع أو أية مؤسسة بديلة عنها. وفي ظل وضع كهذا كان لابد أن تستعين الاحتلال الأمريكي بأشد القوى الرجعية والهمجية، وما أكثرهم بين القوميين والإسلاميين، لتضمن السيطرة على مجرى سير الأحداث في العراق وفق مشيئتها.
3ـ دخول الدول الرجعية المجاورة للعراق قي دائرة الصراع السياسي للعراق من منطلق حماية مصالحهم وأنظمتهم من الهجمة الأمريكية على المنطقة.. لقد أصبح واضحا" للجميع بأن الهجمة الأمريكية سوف لا يتوقف عند الحدود الجغرافية للعراق بل ستتعدى ذلك وربما ستشمل العديد من دول المنطقة ومن سوء حظ العراقيين فإن بعض الدول المجاورة للعراق هم المرشحين الأقرب لتشملهم الهجمة الأمريكية ولذلك فإنهم يسخرون كل إمكانياتهم المادية والمخابراتية واللوجستية لخدمة كل جهد سياسي من شأنه أن يعرقل تنفيذ المشروع السياسي الأمريكي وليس هذا فقط بل أنهم يسعون بكل قوتهم لتأجيج مختلف الصراعات والتناحرات السياسية والاجتماعية ويقدمون الدعم بسخاء لكل من بوسعه تصعيد المواجهات مع قوات الاحتلال أو لمن يستطيع أن يمثل مصالحهم في دائرة الصراع السياسي والمنافسة على السلطة السياسية في العراق، لكي يبقى لهم ضلع في استمرار دوامة العنف وشيوع الفوضى بغية عرقلة تنفيذ المخطط الأمريكي، ومرة" أخرى فإن أفضل الأطراف والقوى السياسية التي بوسعها أن يقوموا بتلك المهمة على أكمل وجه هم الأطراف والقوى والزمر الإسلامية والقومية من الإرهابيين وغير الإرهابيين وبذلك فإن تلك القوى قد نالوا مصدرا" آخر من مصادر القوة التي تعزز قوتها التنافسية في الصراع على السلطة.
4ـ الحضور السياسي الضعيف لجبهة القوى الاشتراكية وكل القوى الداعية للحرية والمساواة والعلمانية والمدنية والحداثة في دائرة الصراع السياسي على السلطة.. أما بخصوص هذه النقطة فيجب أن يكون واضحا" بأن القوى الاشتراكية والتقدمية والثورية داخل المجتمع العراقي لا تعاني من الضعف الكمي بل من الضعف النوعي أي من المستوى المنخفض للنضج السياسي والتنظيمي ومن درجة الاستعداد الكافي لمواجهة كل المعضلات والمشاكل التي تعاني منها جماهير العراق وكذلك من روح المبادرة الثورية التي تدفعها للتدخل الفوري في كل قضايا المجتمع وأحداث الساعة بغية فرض بصماتها السياسية على تلك الأحداث في الوقت المناسب ودون تأخير بغية سد الطريق أمام القوى الرجعية الساعية لتحقيق أهدافها الرجعية واللاإنسانية على حساب مأساة الجماهير وبؤسهم وشقائهم وعليه فإن الحضور السياسي الضعيف لتلك الجبهة في الساحة السياسية العراقية وفي ميدان المنافسة على السلطة قد عززت من دور كل القوى والأطراف الدينية والقومية لكي تتمكن من إخضاع جماهير العراق لتأثيرها السياسي.
خلاصة القول انه في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية للعراق والمنطقة والتي هي جزء لا يتجزأ من الأوضاع العالمية التي تكونت بعد انتهاء الحرب الباردة والنظام العالمي الجديد والحملة العسكرية الأمريكية على العراق والسيناريو الأسود المفروض على المواطنين، فإن توازن القوى التي تكونت على تلك الأوضاع لم يترك الفرصة أمام أي طرف أو حزب سياسي باستثناء القوى والأحزاب الدينية والقومية للوصول إلى السلطة السياسية في العراق لأن المشروع السياسي الأمريكي في العراق وبقية مخططاتها التي تسعى لفرضها في المنطقة عبر أوضاع العراق سوف لا يكتب لها النجاح دون القبضة الحديدية. وبطبيعة الحال إن خير من يضرب المواطنين بالقبضة الحديدية هم القوميين والإسلاميين.. وبهذه الصورة فإن إحدى المهمات السياسية العاجلة للحزب الشيوعي العمالي اليساري العراقي يتمثل بتعبئة القوى الجماهيرية حول الحزب والعمل باتجاه ارتقاء وعيهم السياسي ورفع درجة الاستعداد الثوري والروح القتالية لديهم لمواجهة كل المحن ولخوض النضال في كل الجبهات من أجل إنجاز مهمة سياسية مركبة تتمثل بدمج نضالهم من أجل حقوقهم العاجلة والفورية بالنضال من أجل انتزاع السلطة السياسية من البرجوازية وتأسيس الجمهورية الاشتراكية فورا".