الحكومة العمالية، بديلنا للسلطة!
جليل شهباز
تشتد هذه الأيام حمى الانتخابات وتداعيات موعد إجرائها، بين مختلف القوى والحركات والأحزاب والمنظمات السياسية من الذين يسعون للصعود إلى السلطة السياسية من خلال الانتخابات المزمع اجرائها في 30 كانون الثاني المقبل في العراق. ولكن قبل الدخول في الحديث عن الانتخابات ومدى شرعيتها من عدمها في ظل حالة الاحتلال ومفعول السيناريو الأسود وتفاعلاته وتأثيراته المدمرة داخل المجتمع العراقي، يجب أن يتم تعريف البدائل السياسية المتاحة، الذي تطرحه مختلف القوى والأحزاب في الساحة السياسية العراقية، لجماهير العراق وذلك لإتاحة الفرصة أمام الجماهير لاختيار البديل السياسي الذي يتناسب مع تطلعاتهم ومصالحهم وأهدافهم الإنسانية. فبعد عقود طويلة ومريرة من حكم النظام البعثي الفاشي في العراق والذي تميز بالحرمان والمأساة والكوارث والمجازر الإنسانية الرهيبة، وبسلسلة من الحروب المتتالية التي حصدت أرواح مئات الالاف من المواطنين العراقيين، وبعد الحصار الاقتصادي الظالم والغير إنساني الذي دام اثنا عشر عاما" والذي قصم ظهر العراقيين بسبب آثاره المدمرة، أما بعد سقوط النظام البعثي الدموي وحالة الاحتلال التي رافقتها التدمير الكلي لمعظم الهياكل الارتكازية للاقتصاد العراقي بالإضافة إلى الانهيار التام لكل المؤسسات الخدمية وشيوع حالة البطالة المليونية وانعدام الأمن والاستقرار وانتشار الجريمة المنظمة وانبعاث مختلف الزمر والعصابات الإسلامية الذين يسعون إلى فرض أشد العادات والتقاليد الرجعية على المجتمع وفوق كل هذه وذاك المواجهات العسكرية اليومية بين قوات الاحتلال وتلك الزمر والمجاميع الإرهابية وبقايا فلول النظام البعثي المقبور داخل أماكن معيشة وعمل المواطنين، فبعد كل ذلك أعتقد أنه ليس بوسع أي إنسان يمتلك أدنى حد من الحس الإنساني إلا أن يقول بأن أهم ما يحتاجه جماهير العراق حاليا" يتمثل بسلطة سياسية منتخبة تعبر عن الإرادة الجماهيرية الحرة في ظل أوضاع سياسية واجتماعية طبيعية وآمنة ومستقرة؟ وحتى تكون الصورة السياسية داخل المجتمع العراقي واضحا" أمام الجميع، ينبغي تعرية المضمون السياسي والطبقي للبدائل السياسية الرئيسية في الساحة السياسية العراقية، كي تساعد جماهير العراق على اختيار البديل السياسي الذي سيحقق للإنسان العراقي، بعد سنوات طويلة من الحرمان والبؤس الاجتماعي والاقتصادي، الحرية والرفاه والازدهار؟.
في الحقيقة هناك ثلاثة مجموعات من القوى والأحزاب السياسية الأساسية التي تتنافس على الحكم في العراق ويلتفون في نفس الوقت حول ثلاثة أشكال من البدائل السياسية للسلطة ويترتب على ذلك بالضرورة وجود ثلاثة أشكال من إدارة الدولة والمجتمع وثلاثة أجندات سياسية للوظائف والمهام السياسية والاجتماعية التي يتحتم على تلك القوى إنجازها إذا ما تمكنت أية منها الصعود إلى السلطة وكما يلي:
أولا"/ مجموعة من القوى والأحزاب والمنظمات السياسية التي تعتبر بمثابة مختلف المكونات والعناصر السياسية والاجتماعية للسيناريو الأسود التي فرضتها أمريكا على العراق. وإن أية حكومة تشكلها هؤلاء سوف تكون بالضرورة حكومة استبدادية سواء كانت حكومة فيدرالية أو إسلامية، وكما هو معلوم إن تلك المجموعة من القوى تتألف من قسمين:
1ـ مجموعة القوى والأحزاب السياسية التي تحتضنها الاحتلال الأمريكي والذين ينادون بتشكيل حكومة فيدرالية وهم مزيج من القوى والأحزاب السياسية القومية والمذهبية والعشائرية والطائفية الغارقة في الرجعية والتي أسندت إليهم أمريكا عملية استلام السلطة بعد سقوط النظام البعثي الدموي. وبطبيعة الحال إن مسألة بقاء ذلك المزيج السياسي المائع والغير متجانس في السلطة، وحتى الوجود الاجتماعي والسياسي للبعض منهم، مرهون بصورة تامة بوجود الاحتلال الأمريكي. وفي كل الأحوال سواء كانت تلك المجموعة من القوى موجودة على قمة هرم السلطة أو خارجها فأنها تعتبر من مكونات السيناريو الأسود ولا يستطيعون مخالفة الإرادة السياسية الأمريكية وإن أجندتهم السياسية سوف لا تخرج عن دائرة المشروع السياسي الأمريكي وكذلك إن ممارستهم وسلوكهم السياسيين داخل المجتمع العراقي ستصبان في نهاية المطاف في مجرى المساعي الأمريكية الهادفة إلى الهيمنة والسيطرة التامتين على العالم عبر السيناريو الأسود الذي يخضع المجتمع العراقي لمفعوله. وفي التحليل الأخير إن مسيرتهم السياسية وتحديدا" إذا ما تمكنوا من البقاء في السلطة سوف تمر بالضرورة عبر المزيد من الكوارث والحروب والمأساة الإنسانية بالإضافة إلى أن سلوكهم السياسي سيكون قائما" على حرمان الجماهير من الحقوق والحريات.
2ـ كل الزمر والمجموعات والمنظمات الإسلامية الإرهابية وبقايا فلول النظام البعثي من الذين يسمون أنفسهم بالمقاومة الذين يلتفون حول شعار الحكومة الإسلامية. وكما هو معلوم إن هذه المجموع لا تقل وحشية وبربرية" عن المجموعة الأولى وإن ممارساتهم وسلوكهم الإرهابيين وطبيعة أعمالهم القذرة والوحشية يجسد بشكل واضح كل خصائصهم ومميزاتهم السياسية والاجتماعية كما وإن تجربتهم اللاإنسانية في النجف والفلوجة هو الذي يشكل نموذجهم المثالي في إدارة الدولة والمجتمع وفي كل الأحوال سوف لا يكون بديلهم السياسي وأسلوب إدارتهم وقيادتهم للمجتمع والدولة أفضل من تجارب أسلافهم من متوحشي حركة طالبان وهمجية ملالي إيران.
وخلاصة القول سواء كانت المجموعة الأولى هي التي تقود دفة الحكم أو المجموعة الثانية فالأمر سيان لأن جماهير العراق ستبقى في ظل سيطرة حكمهم مسلوبة الإرادة والحقوق وسوف لن يتحقق لجماهير العراق حتى ابسط مقومات الحياة الإنسانية التي تليق بالإنسان وستكون المستقبل بالنسبة إليهم والأجيال التي ستليهم مظلمة ودون أية ملامح وآفاق إنسانية مضيئة.
ثانيا"/ مجموعة من القوى والشخصيات السياسية والاجتماعية بالإضافة إلى بعض الأحزاب والمنظمات السياسية والجماهيرية من الذين ينادون بتشكيل حكومة مدنية وعلمانية في العراق أسوة" بالديمقراطيات الغربية وحكوماتهم التي تنشأ من تلك الديمقراطيات. بطبيعة الحال إن تشكيل حكومة مدنية وعلمانية هي في كل الأحوال أفضل بكثير من حكومة مذهبية أو طائفية أو قومية لأن بوسع مثل تلك الحكومة على الأقل أن تؤمن لجماهير العراق سقفا" معينا" من الحريات والحقوق ومساواة جميع المواطنين أمام القانون بغض النظر عن الانتماء العرقي أو القبلي والطائفي للمواطن.. وإلخ من المميزات والخصائص الجيدة مقارنة" مع الأنظمة الاستبدادية.. ولكن في ظل حالة الاحتلال، وخضوع العراق لمفعول السيناريو الأسود، وفي ظل الأوضاع والظروف الحالية التي يدور فيها عجلة الإنتاج الرأسمالي على أساس الاستغلال الوحشي لقوة العمل البشرية الذي يضمن تحقق فائض خيالي من القيم الزائدة لتضاف إلى تراكم رأس المال ولتؤمن بالتالي ديمومة حركته، هل من الممكن تشكيل حكومة مدنية وعلمانية غير مذهبية وغير قومية أسوة" بالحكومات الغربية؟! على الإطلاق أمر غير ممكن لأنه وبكل بساطة عندما يتميز نظام اجتماعي باستغلال الإنسان بشكل وحشي في ميدان الإنتاج الاجتماعي والعلاقات الاقتصادية فبالضرورة يجب أن يتميز البنيان السياسي الذي ينشأ عليه، بغية قيادة المجتمع وإدارته وفق ضرورات بقاء واستمرارية ذلك النظام، بالوحشية السياسية أيضا"، وحتى لو فرضنا جدلا" بتشكيل حكومة ديمقراطية وعلمانية في ظل توازن معين للقوى السياسية والاجتماعية فبكل تأكيد ستبقى تلك الحكومة قائمة على حالة سياسية وقتية وعابرة أي نتيجة لحالة سياسية غير أصيلة وليس لها جذور اجتماعية عميقة في الخصائص الاجتماعية والتاريخية الملموسة لقوانين حركة المجتمع، ولذلك فإن أية شذرة من الحرية وأي نفس ديمقراطي وأي حد من الحقوق من شأنه أن تهز كل أركان وركائز النظام السياسي والاجتماعي القائم على مثل ذلك الأساس الاقتصادي والاجتماعي.. وبذلك فإن رفع شعار الحكومة المدنية والعلمانية على ضوء ذلك التحليل ليس سوى ضرب من الخيال والأوهام وإن الإصرار على رفعه عن وعي من قبل قوة سياسية تدعي الاشتراكية يعني خداع وتضليل المجتمع وقوى العمال الثورية وطليعتهم المتمثلة بالشيوعية العمالية ويعني وقوفهم في خندق خونة الاشتراكية!! أما إذا كان طرحه نابعا" من حسن النية فإن ذلك يعني جهل تام بالخصائص التاريخية الملموسة لواقع المجتمع العراقي!! وفي كلا الحالتين فإن القوى الثورية ودعاة الحرية والمساواة داخل المجتمع هم الذين ينبغي عليهم دفع ضريبة المواقف السياسية المترتبة على رفع مثل ذلك الشعار! وعليه فإن الذين يرفضون المشاركة في الانتخابات بذريعة عدم توفر القاعدة القانونية الضرورية لتنظيمها!! ليس في الحقيقة سوى ضحك على الذقون لأن ذلك يعني ضمنا" إذا ما توفرت القاعدة القانونية الضرورية فأنهم سيشاركون في عملية الانتخابات! ولنفترض من باب الجدل! توفر القاعدة القانونية لتنظيم الانتخابات وفق ما هم يتطلعون إليه أو المشاركة وفق أية صيغة كان! فهل يعني ذلك توفر الشروط التاريخية لتشكيل حكومة علمانية ومدنية؟ كلا أنها لا تعني ذلك أبدا" بل أنها تعني إضفاء الشرعية الجماهيرية من خلال عملية الانتخابات على حكومة استبدادية لأنه وكما أشرنا إليها يستحيل تشكيل حكومة مدنية وديمقراطية بالمعنى الغربي في بلد من بلدان العالم الثالث في ظل شروط الإنتاج الامبريالي وخصوصا" إذا كان ذلك البلد خاضعا" من الأساس لتأثير مخطط سياسي لا إنساني و يئن تحت وطأت سيناريو أسود تنفذه قوة عظمى بقوة الحديد والنار على حساب معاناة الجماهير وحرمانهم كالذي نراه حاليا" في العراق! ولذلك فإن هذا وبكل المقاييس والتحليلات لا يعني سوى المشاركة الفعلية في عملية إدامة واستمرارية السيناريو الأسود المفروض على جماهير العراق وهي بالضرورة تكرار وتكاثر للحروب والحرمان والمأساة الإنسانية.
ثالثا"/ مجموعة القوى الاشتراكية الثورية ومعهم كل دعاة الحرية والمساواة من الذين يلتفون حول البديل الاشتراكي المتمثل بالحكومة العمالية.. وبهذا الخصوص ينبغي أن نعلم إن المجتمع العراقي على ضوء تحليلنا للوضع التاريخي الملموس يقف على مفترق طريقين لا ثالث بينهما، فإما البربرية الرأسمالية بكل معانيها ودلالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الوحشية والغير إنسانية! وإما الاشتراكية! باعتبارها السبيل الوحيد لإلغاء كل شكل من أشكال الظلم الاجتماعي وبالتالي إقامة مجتمع الحرية والمساواة. وأظن أنه ليس أمام الأحزاب الماركسية المستقيمة والقوى الاشتراكية الفعلية وبرفقتهم كل دعاة الحرية والمساواة داخل المجتمع العراقي، سوى اختيار البديل الاشتراكي والسعي للظفر بالسلطة السياسية وبالتالي ترسيخ دعائم الديمقراطية العمالية داخل المجتمع لأنه فقط بوسع هذه الديمقراطية أن تضمن أوفر قدر من الحريات والحقوق للغالبية العظمى من المجتمع، ولأن هذه الديمقراطية سوف تجمع لأول مرة في العراق كل السلطات، أي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في إطار واحد وسوف تكون المجالس المنتخبة جماهيريا" بمثابة المصدر الذي ينبع منه تلك السلطات ولأن تلك الديمقراطية ستكون بمثابة الأساس المادي والاجتماعي التي ستقوم عليه الحكومة العمالية على هيئة المجالس والتي تجسد بالضرورة الإرادة الجماهيرية المباشرة حيث أن الجماهير ستتمكن لأول مرة أيضا" من اختيار ممثليها بكامل حريتهم ودون إكراه من أحد وستكون بوسعهم أن يغيروا أي موظف حكومي مهما كان درجته الوظيفية ومتى ما شاؤا وسوف لن تكون المناصب الحكومية مغرية ليتنافس عليها الوصوليون والانتهازيون من كل الأشكال والألوان بل سوف لا تزيد رواتبهم عن المعدل الوسطي للأجور السائد في البلد وبالإضافة إلى كل ذلك سوف يتمكن الجماهير لأول مرة من رقابة عمل وأداء الحكومة لضمان إبقائها في إطار مصالحهم وتطلعاتهم الإنسانية وسيتم توجيه عمل الحكومة بالضرورة نحو تلك الميادين التي من شانها أن تحقق الرفاه والازدهار لعموم المجتمع.
جدير بالذكر إن من يرفع حاليا" شعار الحكومة العمالية ويسعى لتنظيم الحركة المجالسية في الساحة السياسية العراقية هو الحزب الشيوعي العمالي اليساري العراقي.. وبهذا الصدد يجب أن نعلم بأن الفرصة حاليا" متاحة أمام جميع الأحزاب والقوى والحركات السياسية والاجتماعية الجدية للظهور على الصعيد الاجتماعي وبالتالي طرح بدائلهم السياسية، ولذلك يجب أن يلتف كل المناضلين الشيوعيين وكل القوى والحركات الداعية للحرية والمساواة داخل المجتمع العراقي حول هذا الحزب ليتمكن من تنظيم وقيادة الاعتراضات الجماهيرية لانتزاع السلطة السياسية من البرجوازية وإقامة حكومة المجالس.
5 كانون الأول 2004