من يقف وراء إثارة التناحرات والفتن القومية والطائفية في العراق؟
جليل شهباز
لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن المزيد من الحوادث المؤسفة والمروعة التي تحدث في مختلف مدن العراق على أثر الصراعات والتناحرات والفتن القومية والطائفية التي تفتعلها وتؤججها مختلف القوى والأحزاب القومية والإسلامية. لقد أصبحت مختلف المدن العراقية المثخنة بالجراح من جراء السياسات الشوفينية واللاإنسانية للنظام البعثي المقبور، مرة" أخرى هدفا" لطعن حراب القوميين والإسلاميين، فكلما سنحت الفرصة لتلك القوى الهمجية فأنهم يقترفون من أجل أهدافهم السياسية الرجعية واللاإنسانية أفضع الجرائم بحق جماهير العراق دون أن يهتز لهم جفن وكأن الجراح التي سببها النظام البعثي لم تلحق الأذى بجماهير العراق حتى يضيف إليها جراح جديدة!. لقد كان الأهداف اللاإنسانية للنظام البعثي الفاشي هي التي تقف خلف ممارساتهم السياسة الشوفينية والفاشية، وإن تلك الأهداف كانت واضحة للجميع ولا تحتاج لأي تفسير، ولكن لنرى ما الذي يسعى إليه الشوفينيون الجدد من كل الأعراق والتلاوين؟.
كما هو معلوم إن التركيب السكاني للعراق هو ذا ت تنوع عرقي وطائفي متباين، وبما أن النظام البعثي الفاشي قد ترك ورائه أرثا" ثقيلا"، من التفرقة والبغض والأحقاد والتمييز الطائفي والقومي والآثار السيئة والمقيتة لسياسة التطهير العرقي وعمليات التعريب والترحيل والأنفال، فإن كل ذلك قد أصبح أرضية سياسية واجتماعية خصبة لتحرك ونشاط مختلق القوى والأحزاب القومية والطائفية. ولذلك فإن تلك الأحزاب والقوى السياسية الرجعية لم تتردد يوما" من إثارة أية فتنة طائفية أو قومية من أجل أي مكسب سياسي مهما كان تافها" ومهما كانت حجم الأذى التي ستلحق بجماهير العراق من جرائها، في حين إن ممارساتهم السياسية الإرهابية قد أثبتت عمليا" بعد الاحتلال الأمريكي للعراق بأن كل ماله صلة بمصالح الجماهير وحقوقهم ليس فقط لا يهمهم، بل أن وجود كل ميل داع للحرية والمساواة داخل المجتمع يشكل في الأساس خطرا" على وجودهم السياسي والاجتماعي. وعليه فإن وجود مثل تلك الأوضاع تشكل بالنسبة إليهم فرصة لا تعوض ولذلك فأنهم فيتسابقون فيما بينهم لتأجيج المشاعر القومية والدينية لدى المواطنين ويبذلون كل ما في وسعهم لقذف جماهير العراق في أتون حرب طائفية أو قومية حتى يتسنى لهم الفرصة لحفر طريقهم نحو السلطة عبر معاناة الجماهير وحرمانهم وبؤسهم.
وبما أن شكل العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع العراقي هي على هذه الصورة المأساوية فمن الذي يدفعها نحو مزيد من التدهور والتأزم؟ في الحقيقة هناك عدة تفسيرات وآراء حول ذلك، فهناك من يقول بأن بعض الأيادي الخفية التابعة للنظام البعثي المقبور وبعض المنظمات الإسلامية الإرهابية التي تضرها استقرار الأوضاع والتعايش الأخوي السلمي بين مختلف القوميات والطوائف في العراق، هي التي تحرك الأوضاع نحو مزيد من التدهور، في حين هناك آخرين يقولون بأن بعض القوى والأطراف السياسية العميلة لبعض الدول المجاورة للعراق هي التي تثير الفتن والنعرات القومية والدينية لتكون بمثابة ذرائع منطقية لتدخل تلك الدول في أوضاع العراق إذا دعت مصالحهم مثل ذلك التدخل، لتقوية موقعهم التفاوضي أمام بقية القوى الأقليمية والدولية من الذين يتصارعون للحصول على أكبر حد من المكاسب على اثر التحولات السياسية السريعة التي تمر بها المنطقة عموما" والعراق خصوصا". وأخيرا" هناك رأي آخر يؤكد بأن النزعة الانفصالية لدى الأكراد والأحزاب القومية الكردية هي التي تؤجج المشاعر القومية ومختلف النزاعات العرقية في مختلف مناطق العراق ذات التركيب السكاني غير المتجانس بغية فرض نفوذهم على أوسع رقعة جغرافية ممكنة ومن ثم الانفصال عن العراق.
قد تكون أي من تلك الآراء والتفسيرات بفردها، أو بأجمعها، صحيحة ولكن مع ذلك فإن اصل المشكلة لا تكمن في صحة تلك التفسيرات أو عدمها، لأنه هناك عوامل أخرى ساعد على تهيئة الأوضاع السياسية والاجتماعية في عموم مناطق العراق لتفعيل السياسات الشوفينية وبزوغ الحوادث والمنازعات بين مختلف الطوائف والقوميات.. فإذا نظرنا إلى الواقع السياسي والاجتماعي في العراق بعد الحرب الأمريكية على العراق وسقوط النظام البعثي، فسنرى بأن الدمار الذي سببتها الحرب الأمريكية لم تشمل فقط البنية الاقتصادية وركائز المؤسسات الخدمية والاجتماعية بل، شمل النسيج الاجتماعي أيضا". ثم أن المجتمع العراقي بأكمله قد أصبح خاضعا" بصورة تامة لتأثير السيناريو الأسود الأمريكي وعلى أثرها ضاقت الآفاق الإنسانية داخل المجتمع العراقي وأصبح جماهير العراق مشلول الإرادة، وبفعل كل ذلك سادت الفوضى السياسية وانعدم الأمن والاستقرار في العراق فأصبح المجتمع العراقي بأكمله عرضة لغزو مختلف والقوى من كل التلاوين والاتجاهات، ومع وجود حالة الاحتلال وفقدان السلطة المركزية وعجز أمريكا من إيجاد بديل سياسي مطيع لها وقادر على بناء سلطة سياسية قوية تحظى بقبول اجتماعي واسع في معظم مناطق العراق، اضطرت على تشكيل سلطة صورية، باسم مجلس الحكم، ومن بعدها حكومة مؤقتة كارتونية تجمع فيها مجموعة من الدمى والفزاعات من الذين لا يحلون ولا يربطون لتكون نواة لسلطة سياسية مهزوزة تدير المجتمع بالحراب، والعقب الحديدية، الأمريكية.
وفي نفس الوقت كان التركيب السياسي لمجلس الحكم ومن بعدها الحكومة المؤقتة مؤلف من تجمع قسري يضم أشد القوى السياسية القومية والدينية الموغلة في الرجعية والتخلف، وكانت مقاعد مجلس الحكم قد تم توزيعها بمنتهى العدالة بين مختلف القوميات والطوائف الذي يتكون منه المجتمع العراقي وعلى نفس المنوال تكون مجلس الوزراء ومجالس المحافظات والبلديات وهذا يعني أن المجتمع العراقي قد تم تقسيمه فعليا" على أساس الاثنيات القومية والطائفية. ونفس الشيء تكرر عند تشكيل ما يسمى بالحكومة المؤقتة وعلى هذا الأساس فمن الطبيعي أن تسود المنازعات والحروب القومية والطائفية في كل أرجاء العراق فما بالك عندما تكون الأمور على هذا المنوال في المناطق الملتهبة أصلا" مثل مدينة كركوك والموصل! فإذا كانت الأمور بمثل هذه الصورة القاتمة فما هو المخرج من هذا الوحل؟.
في الحقيقة إن صد كل الممارسات والسياسات الشوفينية واللاإنسانية لمختلف القوى والأحزاب ذات الانتماءات العرقية والأثنية المختلفة لا يمكن أن يتم إلا بالتفاف كل القوى والحركات من دعاة الحرية والمساواة في العراق حول البديل الاشتراكي، في حين إن الحضور السياسي القوي والفعال لذلك البديل داخل المجتمع العراقي سيكون بمثابة الكوابح للضغط على أية سلطة سياسية تقود المجتمع وفق دوافع وأهداف لا إنسانية، وكذلك سيكون سدا" منيعا" بوجه كل القوى والأحزاب السياسية القومية والدينية من الذين يسعون للوصول إلى السلطة من خلال دغدغة المشاعر والاحساسات القومية والطائفية للمواطنين وتقسيمهم على أساس انتماءاتهم العرقية والدينية.
وعلى هذا الأساس فإن الحزب الشيوعي العمالي اليساري العراقي قد عقد العزم على قيادة المسيرة النضالية للطبقة العاملة والشيوعية العمالية وفق منهج ثوري ورؤية إنسانية حتى انتزاع السلطة السياسية من البرجوازية وإقامة المجتمع الاشتراكي وبالتالي إلغاء كل شكل من أشكال الظلم الاجتماعي ومن ثم قذف العبودية المأجورة بكل عفونتها وقذارتها وفسادها ومساوئها إلى سلة القاذورات في التاريخ الإنساني.. وحينذاك سيصبح العراق بكل تأكيد رمزا" في عموم المنطقة للتعايش السلمي والإنساني بين مختلف القوميات والأعراق والطوائف وسيكون كفيلا" بأن تحل الثقافة الإنسانية الأصيلة محل الثقافة الوحشية القائمة على الأحقاد والتناحرات القومية والدينية.