الدستور الدائم للعراق سوف لن يكون علمانيا"!
جليل شهباز
لقد أكدنا في مقالاتنا السابقة بأن حكومة طائفية وقومية ستتمخض بالضرورة من الانتخابات التي جرت في العراق يوم 30 كانون الثاني المنصرم ومع شديد الأسف فإن ما توقعناه سيتحقق دون أدنى شك لأن كل القوائم التي فازت في تلك الانتخابات تحمل الصبغة القومية والطائفية كما وأن كل القوى والأحزاب السياسية المؤتلفة في تلك القوائم تنتمي إلى نفس الطينة. وإذا عدنا قليلا" إلى الوراء فسنرى بأن مجلس الحكم المنحل كان يتحلى بنفس الخصائص والمميزات، في حين إن الحكومة المؤقتة التي تدير العراق حاليا" هي الأخرى تنتمي إلى نفس الفصيلة. أما مشروع قانون إدارة الدولة التي صاغه المجلس الوطني المؤقت، والذي تم تشكيلها فيما سبق وفق نفس المكونات السياسية والاجتماعية، فأنها تجسد بشكل واضح النزعتين القومية والدينية، أما الممارسة السياسية لمؤسسات الدولة خلال الفترة السابقة فهي الأخرى جسدت بشكل سافر سلطة القوميين والإسلاميين. إضافة" إلى كل ذلك فإذا أخذنا، المهمة الرئيسية للحكومة المقبلة التي ستشكلها نفس القوى، بنظر الاعتبار، بعد أن تستلم مقاليد السلطة في العراق والتي تتمثل بصياغة دستور دائم للبلاد ومن ثم التحضير لإجراء انتخابات جديدة! فهل ستفلح تلك التركيبة من القوى السياسية القومية والدينية الغارقة من أخمص القدمين حتى قمة الرأس في التخلف والرجعية، في صياغة دستور دائم للعراق يضمن حتى ولو الحد الأدنى من الحقوق والحريات الإنسانية لجماهير العراق؟!.
بكل تأكيد إن تلك التركيبة السياسية من القوى الرجعية سوف لن تتمكن من فتح أبواب التمدن والعلمانية والرفاهية أمام المجتمع لأن بقائهم في السلطة مرهون بإسكات كل صوت يدافع عن حقوق الجماهير وحرياتهم وصد كل ما له صلة بالنزعة الإنسانية والمصالح العمومية والحقوق المدنية لجماهير العراق، ولأن الممارسات القمعية هي الوسيلة الوحيدة التي ستساعدهم في إعاقة أي تقدم للنضال الجماهيري الذي يهدد وجودهم السياسي والاجتماعي. ثم يجب أن نعلم بأن السلوك السياسي الاستبدادي الذي تمارسه مختلف القوى والأنظمة الرجعية لحماية سلطتهم لا يستهدف فقط الحركة المطلبية للجماهير بل يستهدف في الأساس كل القوى الاشتراكية والراديكالية الثورية من الذين يناضلون من أجل تحقيق الحرية والمساواة والمجتمع اللاطبقي. ولما كانت كل الأنظمة القومية والإسلامية الاستبدادية تستمد موضوعيتها وفلسفة وجودها من النزعة القومية والمذهبية ومن شيوع الأحقاد والنعرات والتمييز الديني والقومي والطائفي، داخل المجتمع فإن هذه المسألة بحد ذاتها تكفي لنسف ثلاثة أرباع الحجج والذرائع الذي يستند إليها كل القوى والأحزاب الذين ينادون بصياغة دستور علماني وتشكيل حكومة علمانية في العراق.
وعلى عكس الأحلام الوردية لتلك القوى يجب أن نعلم بأن الديمقراطية البرجوازية وجميع أنظمة القوانين المدنية والعلمانية للبرجوازية تستمد موضوعيتها من الاستقرار الاقتصادي والسياسي وسيادة الرأسمال الصناعي والمصرفي على الحركة الاقتصادية للمجتمع ليكون في نفس الوقت بمثابة الأساس المادي والبيئة السياسية والاجتماعية التي تولد العوامل الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لنشوء وتقوية فئة التكنوقراط داخل المجتمع والطبقة البرجوازية والتي من دونها يستحيل تكوين الأحزاب الليبرالية والإصلاحية القادرة على تشكيل حكومة ديمقراطية ومدنية وبالتالي صياغة دستور علماني.. فهل أن الحركة الاقتصادية والتكوين الاجتماعي في العراق بهذه الصورة؟ بالطبع هي ليست كذلك، ولهذا فإن أشد القوى الرجعية الإسلامية والقومية هي التي حصدت الغالبية العظمى من أصوات الناخبين العراقيين، وعليه فمن غير المنطقي أن تسعى تلك المجموعة من القوى إلى صياغة دستور علماني ولا إلى تشكيل حكومة علمانية، ثم إن رموز تلك القوى والأحزاب يصرحون علنا" ومن الآن بأن الدين الإسلامي سيكون المصدر الوحيد للتشريع القانوني في العراق ولا أظن بأن بقية القوى السياسية التي ستكون فاعلة في المجلس الوطني المقبل سيعارضونهم على ذلك لأن مثل ذلك الإقرار سيقع في دائرة المساومات والصفقات السياسية الحقيرة داخل الجمعية الوطنية.
وهنا يجب أن لا ننسى نقطة في غاية الأهمية ألا وهي الدور الأمريكي بالنسبة للحياة السياسية والمستقبل السياسي للعراق. باعتقادنا إن الدور الأمريكي سيكون محصورا" في إطار تشكيل حكومة أمينة لمصالحها ولاستراتيجيتها اللآإنسانية في العراق والمنطقة وسوف لن يسمح بأي شكل من الأشكال أن تصعد أية قوة سياسية تميل إلى مصالح الجماهير وتعارض الوجود الأمريكي، إلى السلطة لأن العراق قد أصبح القاعدة السياسية والعسكرية الرئيسية لتنفيذ مخططاتها الهادفة إلى إعادة ترتيب موازين القوى السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط الكبير وفق مصالحها الاقتصادية وغطرستها السياسية للهيمنة على العالم ولذلك فإن أمريكا ليست لديها أية مشكلة مع الرجعية السياسية وسحق الحريات وسلب الحقوق طالما أن من يمارسها سوف لن يعادي المخططات الأمريكية ولن يعرقل تنفيذ مشاريعها السياسية وبهذا الخصوص فقد أكد العديد من مسؤولي الإدارة الأمريكية بأن أمريكا سوف لن تعارض على تشكيل حكومة إسلامية معتدلة في العراق.. وعليه فإن هذه المسألة أيضا" ينسف بقية حجج وذرائع من يتوهمون بتشكيل حكومة مدنية وصياغة دستور علماني. إذن فلماذا تصر بعض القوى والأحزاب السياسية في العراق على تشكيل حكومة، وصياغة دستور، علمانيين؟! في الحقيقة إن بعض من تلك القوى تصر على ذلك عن وعي وإدراك والبعض الآخر متوهم فعلا" بالديمقراطية والعلمانية ولكن الأمر سيان لأنهم في كلا الحالتين يعلمون جيدا" مدى تعطش جماهير العراق للحرية والمساواة ومدى إصرارهم لنيل حقوقهم ومدى تطلعهم لمستقبل زاهر لهم ولأولادهم، ولذلك فأنهم يظنون عندما يرفعون مثل تلك الشعارات ومثل هذه اللوائح من الحقوق والحريات سوف يتمكنون من خداع الجماهير ويجذبونهم للالتفاف حول شعاراتهم وبرامجهم لاستخدامهم كورقة ضغط للصراع على السلطة أو بالأحرى للمشاركة فيها.
وبناء" على ذلك فما هو المغزى السياسي لصياغة دستور إسلامي؟.
إن من يسعون لصياغة دستور إسلامي ليتم بموجبه تنظيم وقيادة المجتمع العراقي، وتحديد شكل العلاقة بين، الفرد والمجتمع، والدولة، وتحديد الحقوق والواجبات، وفق القواعد اللآإنسانية للشريعة الإسلامية يعتبر كارثة رهيبة ستحل على جماهير العراق فبعد عقود طويلة من القمع والاستبداد والحرمان من الحقوق وضنك العيش والبؤس والشقاء الذي عانته جماهير العراق على يد الأنظمة القومية والاستبدادية المتعاقبة على السلطة في العراق، وبعد أن غرق المجتمع العراقي بأكمله في الدوامة المرعبة للسيناريو الأمريكي الأسود، فإن القوى الإسلامية والقومية الشريرة سيفرضون بدعم ومباركة الحرية والديمقراطية الأمريكيتين دستور إسلامي أسود ولا إنساني على المجتمع العراقي لضمان استمرار المسيرة الدموية التي بدءها النظام البعثي وسحق كل التطلعات والأماني الإنسانية لجماهير العراق ومن ثم شن هجمة أشمل وأعمق على الحقوق والحريات المدنية والفردية للمواطنين وبالتالي قذف المجتمع بأكمله في لجة الفقر وأتون المزيد من الحروب المدمرة وانعدام الآفاق المضيئة أمام المستقبل السياسي للعراق. ولهذا فإن التأخر في تعبئة الجماهير حول بديل ثوري وإنساني للتصدي والنضال فورا" ضد كل المساعي الهادفة حاليا" لتشكيل حكومة الإسلامية وفرض دستور إسلامي على جماهير العراق ستسبب في ترسخ الركائز السياسية والاجتماعية لنظام حكم ستقوم على الخرافات والجهالة الإسلامية داخل المجتمع وسيتبعها بالضرورة تشديد الرجعية السياسية وطغيان مد رجعي على عموم المجتمع العراقي والمنطقة بأكملها وعندئذ ستنعدم الامكانية أمام انبعاث حتى أضعف زفرة حرة لتستند إليها القوى الثورية بغية مناهضة نظام الحكم الإسلامي. كما وأن الباب سينفتح بمصراعيه أمام قوى الرعب والجهل الإسلامي لفرض أشد العادات والتقاليد الاجتماعية الرجعية والبالية على جماهير العراق وهذا بدوره سيصبح عائقا" جديا" أمام نمو وتطور كل المفاهيم والأفكار والحركات الثورية والتقدمية داخل المجتمع. وإن ما هو أخطر من كل ذلك فإن تطبيقات الشريعة الإسلامية على الحياة الاجتماعية في العراق سترافقها حتما" هجمة إسلامية أخرى في منتهى الشراسة والوحشية على نساء العراق بغية نسف كل منجزات ومكتسبات الحركة النسوية، وبالتالي تحويل نساء العراق إلى مجرد أدوات مجانية لعمل المطبخ ولإنجاب وتربية الأطفال ولإشباع الغرائز الجنسية للرجال. وبما أن دونية المرأة تعتبر ركيزة أساسية لكامل البنيان الأيديولوجي والسياسي للدين الإسلامي، فإن اضطهاد المرأة وانتزاع إنسانيتها أمران حتميتان ويتصدران في قمة أولويات برامج ودساتير الحركات والأنظمة الإسلامية لأنهم بفضل ذلك سيتمكنون من عزل نصف المجتمع من الحياة السياسية داخل المجتمع واختزال كمية هائلة من القدرة الاجتماعية التي تتفاعل بحيوية في مجرى عملية التغيير الاجتماعي والتاريخي نحو مجتمع حر ومتساو.
وعلى ضوء تحليلنا السالف الذكر فإن المساعي الهادفة إلى بناء مجتمع متمدن وعلماني ومزدهر في ظل الشروط التاريخية للإنتاج الإمبريالي والرأسمالية التابعة أمر يستحيل تحقيقه مهما كانت طبيعة وسلوك القوى السياسية والاجتماعية التي تقود المجتمع وتتربع على قمة هرم السلطة وكل من يرى عكس ذلك فإما انه منافق سياسي ويتعمد في تضليل وخداع جماهير العراق من أجل الحصول على بعض المكاسب السياسية التافهة أو أنه لا يفهم على الإطلاق الخصائص التاريخية الملموسة لقوانين حركة المجتمع وفي كلا الحالتين فإن الإصرار على ذلك ستضر بالنضال الجماهيري وربما تنحرف عن المجرى الواقعي لكفاح الجماهير الثوري من أجل تطلعاتهم وأمانيهم الإنسانية.. ولذلك فأننا قد قلنا فيما سبق، ونكرر هنا ثانية، بأن الطبقة العاملة وطليعتها الثورية المتمثلة بالحزب الشيوعي العمالي اليساري العراقي ومعهما كل دعاة الحرية والمساواة والعلمانية والحداثة يمثلون القدرة الاجتماعية الثورية الوحيدة التي بوسعها إقامة مجتمع متمدن وعلماني ومتقدم ومزدهر وخالي من الفوارق الطبقية ومن كل أشكال الظلم الاجتماعي وفقط بوسع هذه القوة أن تحقيق الحرية والمساواة والازدهار داخل المجتمع وليس هذا فقط بل، وكلما كان تحقيقها أشمل وأعمق كلما كان ذلك أفضل وضروري ليتمتع العمال وعموم المجتمع بالمزيد منها. ولهذا فإننا نقول لكل من يهمه أمر إقامة مجتمع حر وعلماني في العراق بأن المجتمع العراقي في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية يقف أمام مفترق للطرق فإما البربرية الرأسمالية بكل مساوئها وإما الاشتراكية ومجتمع حر ومتساو وخالي من الفوارق الاجتماعية!.