حول البنك الدولي: سياساته واهدافه
عصام شكــــري
ishukri@gmail.com
بضوء الاجتماع الذي جرى بين البنك الدولي والمنظمات العمالية العراقية في عمان
الاردن بتاريخ 3 كانون الاول 2008 اود ان اوضح في هذه المقالة ماهية هذه المؤسسة
ومهماتها واهدافها وتبين اسباب وضعها لشروطها على المنظمات العمالية وباختصار احاول
الجواب على سؤال: ما هو البنك الدولي هذا ؟!
بالطبع، يروج البنك الدولي نفسه وابواقه من الاقتصاديين مدفوعي الاجور والحكومات
المساهمة فيه ( والقابضة لامواله) بانه منظمة حسنة النوايا، وربما انسانية ايضا،
تهدف الى مساعدة الدول الفقيرة في محاربة الفقر والنهوض باقتصاداتها وخلق اقتصادات
اكثر فعالية وتطوراً لها !. ولكن، لم يكره الملايين بل المليارات من البشر في كل
انحاء العالم هذه المؤسسة ؟ لم يعتبرونها مؤسسة استغلالية لا هدف لها سوى دفع
مليارات البشر الى الاملاق، الى التشرد والبطالة والحرمان من الحقوق ؟ وهي لا تحل
شئ بل تخلق المشاكل ؟
البنك الدولي مؤسسة عالمية للاقراض المالي لحكومات الدول (بفتح اعتمادات لها).
البنك الدولي يمثل احد اهم دعائم النظام الرأسمالي والطبقة البرجوازية العالمية في
ممارسة هيمنتها على صعيد عالمي. فالبنك الدولي ومعه صندوق النقد الدولي لا يعمل على
زيادة حدة الفقر العالمي للعمال والكادحين فحسب، بل انه مسؤول عن توفير الدعم
الاقتصادي للطبقة البرجوازية المحلية
التي يختارها ( بيديه ) في العديد من دول العالم لينصبها في السلطة وخاصة في تلك
الدول التي توصف بانها نامية ( اقل تصنيعا ).
يستند وجود البنك الدولي على فكرة العمل بشكل غير مباشر على تعميق حدة
فقر الطبقة العاملة في كل انحاء العالم وذلك، كما قلنا، بتشديد قبضة رأس
المال على المليارات من العمال، من العراق الى اندونيسيا ومن البرازيل الى كينيا
ومن ليتوانيا الى الصين يلعب البنك الدولي دور الممول الاقتصادي الاكثر قدرة
للبرجوازية العالمية. انه بهذا
المعنى ليس ذلك الرأسمالي الذي يستغل الطبقة العاملة مباشرة لجني الارباح، بل هو
الممول الرئيسي للدول التي تقوم بدورها بالتخطيط لشكل عملية الاستغلال داخل
المجتمع: من يعمل، ومن يخرج عاطلا عن العمل، الى من تذهب الاموال واين تحجب، في اي
القطاعات يتم الاستثمار واي القطاع تخرج من السوق وغيره. ومن جهة اخرى يقوم البنك
الدولي بدور الحامي المباشر للطبقة البرجوازية من خلال دعمها (بشروط متفق عليها
ظمنا) ماليا. ان دعم البرجوازيات المحلية لا يهدف ، كما يدعي مدراء البنك الدولي،
الى تقوية او تدعيم الاقتصاد او مساعدة تلك الدول على الخروج من الفقر ( انخفاض
الدخول)، بل من اجل منح تلك البرجوازيات القدرة على استغلال الطبقة العاملة بشروط
اكثر قسوة وفظاظة وتشديد الخناق عليها. البنك الدولي يقرض الدول المساهمة فيه
ويربطها بديون هائلة وفي اغلب الاحيان تعجز تلك الدول عن سداد الفوائد المتراكمة
ولعشرات السنين ناهيك عن الدين الاصلي. عملية الربط تلك مهمة وضرورية للبنك الدولي
لانها تجعله بمكانة يتحكم معها بسياسات تلك الدول على مديات طويلة وبالتالي فانه
يمنح نفسه عتلة للتحكم العالمي بحياة ومعيشة ( حرفيا ) للطبقة العاملة في اقصى
اقاصي الارض دون ان يظهر مدراءه على شاشات التلفزيون.
البنك الدولي يضع شروطا على الاقراض. اول تلك الشروط هي ان الحكومة المعنية يجب ان
تكون عضوا في مجموعة البنك الدولي. ان الشرط الاول للانتماء للبنك الدولي هو في
الانتماء اولا الى صندوق النقد الدولي
IMF
بعدها على الدولة المعنية ان تشتري اسهما في
البنك لتكون عضوا في مجلس الادارة لتحصل على موقعية رسم سياسات البنك الدولي.
وهنا قد يسأل سائل: ولكن اذا كانت الدول اعضاء في البنك الدولي، لمَ يتم فرض شروط
على اقراضها الاموال لكي تنمي اقتصاداتها كما يتم الادعاء؟. الجواب هو في ان حصص
مساهمات الدول (عدد الاسهم المشتراة للدخول الى البنك الدولي ) تختلف من دولة لاخرى
حسب ثراءها اي حجم المساهمة. من هنا يمكن تقدير من هي الدولة صاحبة الحصة الاكثر؛
وهي الحكومة الامريكية وايضا دول
الغرب. ان موقعية حكومة امريكا داخل البنك الدولي يجعلها قادرة على التحكم شبه
الكامل برسم السياسات الاقتصادية للبنك الدولي ووضع الشروط الاقراضية لبقية الدول (
البرجوازيات ) وبالتالي ربطها من
رقبتها بسياسات الحكومة الامريكية.
ولكن ماهي بالظبط شروط امريكا ودول الغرب من اجل اقراض الدول المسماة ”فقيرة“ ؟!
وبتعبير اخر ماهي شروط البرجوازية
العالمية
لاقراض البرجوازيات
المحلية
وايضا لتوفر لها التدريب والاشراف والمتابعة بل وحتى الدخول الى ”السوق“ كمستثمر
ولتشجع الدول والشركات الاخرى على الاستثمار؟
تلك الشروط لا تتعلق بفترات سداد الديون او رفع نسب الفائدة على القروض كما يظن، بل
هي بالاساس شروط سياسية وتشريعية ، شروط للتحكم بالسياسات الاقتصادية لتلك الدول
وتسييرها حسب ما يراه البنك الدولي ( اي امريكا والغرب ولكن ايضا مجمل مصالح
البرجوازية ). اول تلك الشروط هي ما يسمى بــ ”اعادة هيكلة البرامج الحكومية“ وهي
تشتمل اضافة الى فرض قوانين وتعليمات صارمة حول اين تصرف القروض وماهي مجالات
الاستثمار واي الفروع ستنال تلك الاموال دون غيرها، فانها تتعلق بما يسمى بممارسة
”التقشف“ الحكومي او تقليص الانفاق. ان الاخيرة نقطة مهمة وذات مغزى. ان تقليص
الانفاق او التقشف يعني عمليا ”تقليص“ الخدمات التي تقدمها الدولة ( الممثل السياسي
والقمعي للطبقة البرجوازية ) للمواطنين ( العمال ) والغاء الصناديق الاجتماعية
والاشتراط بضرورة التخلص من ”العمالة الفائضة“ اي
طرد العمال والموظفين من اعمالهم وظمهم الى جيش العاطلين المليوني ( وهو جيش
من قوة العمل الاحتياطية للبرجوازية تسحب منه حينما ومتى ما تشاء ) وتحت عبارة
”ترشيق الدولة“.
ولكن عندما تتقلص الدولة وتبيع مؤسساتها الى القطاع الخاص وتلغي صناديقها وبرامجها
الاجتماعية كالضمان والصحة والتعليم والتقاعد والبطالة ومساعدة المعوقين والعجزة
والايتام ودور الرعاية الاجتماعية وغيرها (منجزات جلبتها نضالات اجيال عديدة من
البشر) فسيتم رمي هؤلاء الملايين في
المجهول من اجل ”تحسين الاقتصاد“!!.
البرجوازية تدرك جيدا ان في تلك العملية مغامرة محفوفة بالمخاطر لان هذه الاوضاع قد
تولد حركة مضادة وتهئ الارضية لنمو الحركات العمالية الاعتراضية والاشتراكية
والشيوعية. ولذا تهئ البرجوازية مع البنك الدولي ترسانة ضخمة من الاكاذيب والدعاية
والترويج لتبرير تلك العملية التي يسمونها ” مؤلمة “ وتتطلب ” الصبر “ من ”الشعب“
لان البلد يمر بحالة ” انتقالية “ ستحدث بعدها ”المعجزة“ كما حدثت تلك المعجزات في
روسيا ودول اوربا الشرقية ومصر والبرازيل وبقية الدول التي نالت ”بركة“ البنك
الدولي واليوم يعيش الملايين من عمالها ومسنيها على فتحات التهوية في الشوارع
العامة في البرد القارس بلا مآوى يستجدون لقمة الخبز والعطف من المارة.
اما الحكومات فستقول ان تقوية القطاع الخاص ونموه ضروري لامتصاص الانهيار الحاصل في
الخدمات وفي تدخل الدولة. انه جزء صغير من ترسانة الاكاذيب التي تهدف الى شراء سكوت
العمال والكادحين والموظفين وربما اخراسهم.
والان لنرجع الى البنك الدولي ولقاء عمان الاردن مع النقابات العمالية العراقية. لو
نراجع شروط البنك الدولي التي تلاها على مسامع ممثلي العمال صباح يوم الاربعاء 3
كانون الاول 2008 فسنلاحظ ان بالامكان اجمالها بنقطتين: اولهما اعادة هيكلة البرامج
الحكومية، وثانيهما التقشف او ما يسمى ”ترشيق الدولة“ او تقليل حجم الدولة وجعلها
كفوءة ( مؤسسات البيروقراطية الادارية والجيش والشرطة والمخابرات والامن فتظل كما
هي دون ”ترشيق“ بل وتزداد حجماً).
اشترط مدراء البنك الدولي على ممثلي العمال الغاء البطاقة التموينية وانهاء العمل
بصندوق التقاعد ( بحجة افلاسه ) وقبل هذا وذاك اشترطوا خصخصة قطاع النفط والغاز (
قانون النفط والغاز الجديد الذي اثار لغط داخل صفوف الطبقة البرجوازية نفسها)
بالاضافة الى اشتراطات التدخل في المناهج الدراسية وهذا ناجم عن ان هناك حاجة الى
”اعادة هيكلة“ الاجيال الجديدة من اجل خلق كوادر جديد من الاداريين الذين يستطيعون
التعامل مع اقتصاد ”السوق الحرة“ وبالتالي تسيير النظام الجديد. ان الموضوع لا
علاقة له بنهب الموارد كما يتم الحديث عنه
بل ان اشتراط البنك الدولي رفع يد الدولة ( وهنا حكومة المالكي ) عن تلك
المؤسسات لا تهدف تحديدا الى سرقة النفط والغاز العراقي بتفسير مبتذل من القوى
السياسية القومية واقتصادييها من اصحاب ”البرجوازية الوطنية“ بل كجزء من سياسة
وفلسفة البرجوازية العالمية وممثلها البنك الدولي
من اجل تسهيل الاستثمار في العراق. ان عبارة ”اعادة الاعمار“ تعني ان البنك
الدولي سيعطي الضوء الاخضر لكامل الطبقة البرجوازية بقدرتها على بدء الاستثمار في
العراق ( اي بدء استثمار واستغلال الطبقة العاملة العراقية ). ان الضوء الاخضر
يتطلب تطبيق شروط البنك الدولي وهي شروط تهدف كلها الى سلب المكتسبات ووضعيل حياة
الجماهير العمالية الغفيرة تحت رحمة تلك المؤسسة اللصوصية التي تمثل مصالح الطبقة
البرجوازية على صعيد العالم.
في مقالات سابقة تحدثنا عن حاجة البرجوازية لتحويل الاقتصاد في العراق الى السوق
الحرة ومعنى ذلك من الناحية العملية ومن موقع العامل والكادح المحروم وتسليم مصيرهم
الى ايدي الشركات العملاقة سواء اكانت عراقية ام عربية ام اجنبية وكيف انه سيعني
تدهور مستويات المعيشة والصحة والتعليم ويزيد البؤس والهوة الطبقية والفقر ويرمي
قطاعات واسعة من الجماهير في اتون المرض والعجز وانعدام الامان.كما انه سيؤدي الى
احداث تغييرات ثقافية شاملة تؤدي الى تراجع حقوق المواطنين وخاصة تراجع مكانة
المرأة وزيادة حرمان الاطفال
نتيجة زيادة حدة التمييز الاجتماعي وانحسار دور الدولة وترك الجماهير تواجه
مصيرها مع شركات استغلالية في منتهى انعدام الضمير او الانسانية. سيسلم مصير
المجتمع برمته الى يد ”القطاع الخاص“ ليجري تجاربه على الناس ليرى اين يمكن ان يحقق
اكبر نسبة من الارباح وكل ذلك تحت مسمى ”تطوير الاقتصاد“.ولكن الم يكن ذلك ماحدث في
امريكا والغرب نفسه ؟ الامر لم يعد مقتصرا على ما يسمى ب“العالم الثالث“ بل لقد ان
اثار السوق الحرة قد اطاحت بهذا النموذج في عقر دار الغرب وامريكا نفسها !!
قد يظن البعض ان هذه وجهة نظر قد تواجه بوجهة نظر اخرى تعتبر ان البنك الدولي ضرورة
للنمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل وتحسين الحياة الاقتصادية وما يسمى باعادة الاعمار.
ولكن تلك لم تعد اليوم ”وجهة نظر“ فهي كانت الى حد قريب نظرية اقتصادية معتبرة
ولكنها اليوم اصبحت مجرد وهم. ان الاقتصاد الرأسمالي اليوم يمر باكبر ازمة اقتصادية
تعصف به. هذه الازمة هي ازمة اقتصاد السوق الحرة حصراً.
لم يعد لدى البرجوازية اي نظريات اخرى يستطيعون بها انقاذ نظامهم المتهاوي.
انتهت نظريات تدخل الدولة في تسيير الاقتصاد والتخطيط المركزي
وانهارت تجارب دول الرفاه والاشتراكية الديمقراطية ورأسمالية الدولة (سميت
خطئا بالاشتراكية) ولم يعد هناك اي مجال للشك بان انهيار نظريات ملتن فريدمان
سوف يؤدي الى ظهور نظام رأسمالي اكثر
انصافا او بوجه اكثر انسانية.
اليوم ليس ثلاثينات القرن الماضي وهو حتما ليس نهايات الحرب العالمية الثانية بعد
قتل البرجوازية الاوربية والامريكية لاكثر من 50 مليون انسان! اليوم ولاول مرة في
تاريخ البشرية ينهار اخر نظام للطبقة البرجوازية لاستغلال البشر والذي زمر وطبل له
طويلا على انه الحل الابدي الذي سيوفر للبشرية السعادة والرفاه وها هو ينهار على
رؤوس خالقيه ويضعهم ومعهم العالم في مازق.
ولكن داخل نفس هذا المأزق يبرز الحل امام البشرية؛ يتكشف مسار اخر، مسار بامكان
الطبقة العاملة ان تشقه لكل المجتمع؛ طريق انساني يضع حاجات ومطالب الناس لا كرهينة
باطماع حفنة من الرأسماليين بل يضعها في المقدمة ورهنا بارادة الناس انفسهم؛ طريق
سينهي العبودية المعاصرة ويوصل الى الاشتراكية. في الاشتراكية ستتفتح افاق عالم
انساني رحب واسع، خلاق وراقي قائم
على الحرية والمساواة والرفاه والتحرر الاجتماعي باوسع ما يمكن تصوره ولكل افراد
المجتمع، للجميع بلا استثناء.