درس من اكتوبر
عصام شكـــري
ثورة اكتوبر في العام 1917 قام بها العمال الثوريون في روسيا. وقد استطاع العمال الاستيلاء على السلطة السياسية واسقاط الحكومة البرجوازية الديمقراطية لكيرنسكي بقيادة حزبهم السياسي—الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي البلشفي وبتخطيط سريع ومباغت وجسور.
لقد وجهت الطبقة العاملة في اكتوبر 1917 ضربة مؤلمة للبرجوازية لا على صعيد روسيا فحسب بل على صعيد عالمي ، ضربة لم تذق الطبقة البرجوازية مثلها منذ ثورة عمال باريس في العام 1871 والتي يطلق عليها اسم كومونة باريس. لقد كانت ثورة اكتوبر امتداد تاريخي ونضالي جسور لثورة عمال باريس التي استمرت لقرابة الشهرين حققت فيها الطبقة العاملة في فرنسا لاول مرة سيطرتها على السلطة السياسية واقامت سلطتها المستقلة عن البرجوازية ورفعت علم الجمهورية العالمية وحققت العشرات من الاصلاحات الثورية. لقد انتهت كومونة باريس بمجزرة رهيبة ارتكبتها البرجوازية وجيشها الزاحف على باريس، قتل فيها الاف العمال والنساء والاطفال بوحشية.
اما ثورة العمال في روسيا فقد تم تصفيتها بشكل اخر مختلف. ففي اوضاع وظروف عشرينات القرن العشرين وتنامي الحركة الاشتراكية عالميا وصعود الماركسية وكذلك طبيعة تطور الاوضاع الاجتماعية والطبقية في روسيا لم يكن في مقدور البرجوازية في تلك الفترة القيام بالمجزرة والقمع العسكري وتصفية العمال بسبب قوة وحنكة ونجاح التاكتيكات السياسية التي قام بها العمال في روسيا بقيادة الحزب البلشفي للاحتفاظ بالسلطة وتعزيزها في كل انحاء روسيا وبالاستناد الى المجالس العمالية.
وفي العموم فان الطبقة البرجوازية تنخرها المصالح والمطامع المتناقضة ولكن في نفس الوقت توحدها الخصومة الطبقية للعمال. وحين يتعلق الامر بمحاولة الطبقة العاملة امتلاك قرارها والاستيلاء على سلطة المجتمع السياسية واخذها من البرجوازية فان البرجوازية كطبقة تدخل في اقصى درجات الانذار وهي تحاول ان توحد اجنحتها لمواجهة العدو الطبقي: الطبقة العاملة الاشتراكية. انها من اجل ذلك تلجأ الى استخدام اكثر الاساليب وحشية وبربرية من اجل ضرب الطبقة العاملة باقسى ما يمكن.
وفعلا قاومت الطبقة البرجوازية الروسية مقاومة مستميتة من اجل استعادة سلطتها السياسية المسلوبة من ايدي العمال الروس وباشرت بشن الحرب المضادة وتحالفت مع البرجوازية العالمية ممثلة حينذاك بالبرجوازية الامريكية والبريطانية والفرنسية من اجل انتزاع السلطة من ايدي العمال والشيوعيين ولكنها فشلت. وقد حقق العمال بنتظيماتهم المجالسية ( السوفييتات ) نجاحات كبيرة في تنظيم صفوفهم واستقطاب الطبقات المحرومة والكادحة في المجتمع وتشكيل اجهزة الدولة المجالسية والقضاء بشكل جدي وحاسم على المقاومة العسكرية للبرجوازية لاستعادة سلطتها. لقد حل العمال اجهزة القمع البرجوازية وتم تحطيمها كما تم تسليح المجالس العمالية وانشأ العمال جهازهم الخاص. الا ان البرجوازية ظلت تحتفظ بمكامن القوة الحقيقية في المجتمع وستطاعت لاحقا من خلال تغيير اشكال تحركها ومقاومتها الابقاء على النظام الرأسمالي وبالتالي اجهاض ثورة اكتوبر من داخلها وتخريبها تحت نفس الرايات الاشتراكية التي كانت تلك الثورة ترفعها. لقد نجحت البرجوازية في مساعيها اثر فشل العمال الروس في اتمام انجاز الثورة الاشتراكية. فبعد النجاح المؤكد للعمال في الاستيلاء على السلطة السياسية لم يتمكنوا من تحويل الاقتصاد نحو الاشتراكية وظلت الثورة ذات طابع سياسي.
ان الثورة الاشتراكية هي بالاساس ثورة اقتصادية. ولكن هذه الثورة الاقتصادية لا يمكن انجازها مالم يتم الاستيلاء على السلطة السياسية اولا واعلان النظام الاشتراكي ( دكتاتورية البروليتاريا ). وهذا ما فعله البلاشفة في العام 1917. ان النجاح السياسي هو الخطوة الاولى في انجاز الثورة الاشتراكية. الا ان التحويل الاقتصادي للمجتمع ونجاحه ( أي القضاء على الملكية الخاصة وانهاء العمل المأجور اساس النظام الرأسمالي ) هو نضال محوري يجب خوضه من قبل العمال حتى النهاية والانتصار فيه والا انهار منجزهم السياسي . ان سبب ذلك هو انه دون هدم الاركان الاساسية للنظام الرأسمالي أي الاركان الاقتصادية فان البرجوازية ستظل قادرة على السيطرة على السلطة السياسية من جديد بسبب من قدرتها الاقتصادية الكبيرة. ولو نجحت الطبقة البرجوازية في سحب السلطة من ايدي العمال مرة اخرى فانها سترتكب الفظائع ضدهم تماما كما اثبتت الاحداث في ثورة العمال في العام 1848 و1871 في اوربا. ان اخفاق العمال في ثورة 1848 وبعدها في كومونة باريس شاهد ماثل على ان البرجوازية لن ترحم العمال مطلقا فيما لو هم حاولوا التحرش بسلطتها السياسية وبالتالي ستنقض عليهم باشد الاشكال بربرية.
تحدث كارل ماركس وانجلز ولينين ومنصور حكمت عن وجوب انجاز الثورة الاقتصادية للعمال بعد استيلاءهم على السلطة السياسية وعدم الاكتفاء بتلك الخطوة. فبالمال والقدرة الاقتصادية واليات النظام الرأسمالي وطبيعة الصراع الطبقي الجاري اثناء وبعد الثورة وحداثة الدولة العمالية الوليدة تستطيع البرجوازية تجهيز قواتها بالسلاح وشراء المرتزقة والعتاد وانشاء الميليشيات وبالتالي شن الحرب على سلطة العمال.
لقد صاغ ماركس افكاره النقدية النفاذة حول فشل الكومونة بعد قتل اخر مدافع عن الكومونة بيومين، وبين في خطابه امام جمعية الشغيلة العالمية ان عمال كومونة باريس رغم اندفاعهم الاسطوري وبطولتهم الخارقة ”ومناطحتهم للسماء“ لم يكونوا يدركوا ( نتيجة لحداثة تجربتهم وعدم وجود التاكتيك الثوري وتوزع الميول غير الماركسية وغير الاشتراكية بين صفوفهم وتحديدا تيار بلانكي وبرودون الاصلاحي) بان انتزاع السلطة السياسية يجب ان يعقبه فورا انتزاع السلطة الاقتصادية وانجاز التحويل الاشتراكي. وحسب تعبير انجلز فقد وقفت الكومونة برهبة مقدسة إجلالا امام ابواب بنك فرنسا. كان تلك المهابة والتردد احد اهم اسباب اخفاقها.
لقد مرت ثورة اكتوبر العظيمة بنفس التجربة وان بمقياس ونوعية مختلفة حيث كان مقياس نجاح الثورة العمالية اكبر وزمنه اطول ومدى تاثيره اعظم. كما ان اثاره العالمية كانت ضخمة بكل المعايير نتيجة لتنامي الطبقة العاملة على صعيد عالمي قياسا بزمن كومونة باريس وتفشي الافكار الاشتراكية وسطوة الماركسية على الحركة العمالية. ان اهم ما ميز ثورة اكتوبر عن الكومونة هو وجود الحزب السياسي الماركسي المتماسك والصلب للطبقة العاملة—الحزب الذي حدد بدقة كبيرة المهمات التي وجب على العمال انجازها في تلك الفترة واستعمل التاكتيكات المناسبة. ظلت مسألة انجاز الثورة الاشتراكية معلقة ولم يستطع العمال البت فيها لغاية سحق البرجوازية للثورة (وان هذه المرة من داخلها) واستعادتها للسلطة السياسية ولكن مع احداث تغيير في نهج مراكمة رأس المال داخل روسيا. لقد كانت الظروف التي يمر بها المجتمع الروسي هي العامل الاساسي في تحول ثورة اكتوبر من ثورة عمالية اشتراكية راديكالية الى ثورة اصلاحية للبرجوازية القومية ممثلا برأسمالية الدولة واعتماد التصنيع الانفجاري للمجتمع الروسي وخلق قاعدة اقتصادية عملاقة حاولت فيها البرجوازية الروسية القومية اعتماد التحديث الاقتصادي ومنافسة الغرب تقنيا. ومن جهة اخرى فان غياب التصور الكامل للتحول الاقتصادي لدى الطبقة العاملة الروسية هو العامل الذاتي الاخر الذي شل امكانية العمال لانجاز الثورة الاقتصادية للاشتراكية وبالتالي مكن البرجوازية الروسية من استعادة زمام المبادرة بعد بضع سنوات وترسيخ منهج رأسمالية الدولة في الوقت الذي كان العمال يتجادلون فيه حول ”التعلم من البرجوازية“ وانتهاج ”طريق التطور اللا رأسمالي“ في العام 1924.
ورغم ان ثورة اكتوبر انتهت بفشل العمال وصعود البرجوازية القومية الروسية وبدء مسار تحريف الاشتراكية الى نسخة من رأسمالية الدولة، والماركسية الى حركة للتصنيع ومحاربة الامبريالية، والمجتمع الاشتراكي الى مجتمع طبقي مخنوق بالاستبداد السياسي للبيروقراطية المنتفخة في الدولة، رغم كل ذلك كان لثورة اكتوبر نتائج عالمية غاية في الاهمية وخاصة في توحيد وتعاظم قوة الطبقة العاملة وتحرير المرأة ودحر الرجعية والدين وبث الامل والثورية في قلوب الملايين من الشعوب المقهورة.
ان الدرس الاساسي لثورة اكتوبر يتظمن شقين ، الاول: هو ان وحدة العمال وبناء الحزب السياسي للطبقة العاملة هو حجر الاساس في انجاز الثورة العمالية واستيلاء العمال على السلطة السياسية من الطبقة البرجوازية. لا يمكن تصور انجاز العمال للثورة دون وجود الحزب السياسي الماركسي ودون الوحدة الطبقية للعمال. اما الشق الثاني فهو يتعلق ايضا بنجاح العمال لا في المسعى من اجل انتزاع السلطة من ايدي البرجوازية حسب ولكن ايضا في انهاء السيطرة الاقتصادية للبرجوازية ودك اركان نظامها الرأسمالي وتحقيق الاشتراكية من الناحية الاقتصادية. ان أي تقاعس في ادراك اهمية انجاز هاتين الخطوتين سيعرض أي تحرك عمالي من اجل انجاز الثورة الاشتراكية الى خطر الانكسار والهزيمة.