هل السبب حقاً قانون الانتخابات ؟!
عصام شكــــري
يقولون: ماذا نعمل ان كنا لا نشترك في الانتخابات اذن ؟ وماهو دور الشيوعية ان كانت
تكتفي بالتفرج على العملية السياسية ؟.
السؤال السابق والرد عليه ماكان ليطرح لولا قيام الحزب "الشيوعي
العمالي" العراقي بالمغامرة البائسة والفاشلة في اطلاق الدعوة للاشتراك في
الانتخابات وخلق اوهام البرجوازية الصغيرة داخل صفوف العمال والجماهير الغفيرة في
العراق بوجود "أمل" التغيير داخل معسكر النهب والتقسيم الديني والقومي والطائفي
للقوى الرجعية في العراق والتي يسمونها
تمويها بـ "العملية السياسية". ذلك الوهم سرعان ما بددوه
بانفسهم لاحقا في بيان نشر قبل ايام نفى كل الفرضيات حول ضرورة ان يكونوا "عملييين"
و”واقعيين“ مبررين ذلك التراجع بقانون الانتخابات الذي اقره مجلس النواب المسخ.
وكأنهم يغطون في نوم عميق او ايقظوا فجــأة على وقع اقدام
الوحوش الكاسرة التي لم يسمعوا بها قبل
قانون الانتخابات المزعوم !. هل حقا هو”القانون المجحف“ الذي
افسد شهيتهم في ادامة سياسة المساومة مع القوى الرجعية ومحاباتها؟! هل ذلك القانون
هو السبب في عزوفهم عن الاشتراك؟
قبل ان استمر، سافترض جدلا اننا انتهينا من جواب السؤال الذي يطلق
كلما ارادوا مد يدهم لحثالات البرجوازية الاسلامية والقومية، قائلين: "هل يجوز
للشيوعيين الاشتراك في هذا او ذاك (واليوم بمجلس النواب)؟!. طامحا لان يكون قد اجاب
السؤال نفسه بنفسه خاصة بعد قلب موقفهم (180 درجة في 60 يوما بمعدل 3 درجات كل يوم)
!!. ويبدو انهم فهموا الاجابة بانفسهم. فضمن ذلك النمط من عقلية تحويل الشيوعيين
اما الى ”اتباع صالحين“ او ”خونة“ مارقين و"مخربين" كما اطلقوا علينا من قبل يكمن
تصوير الفكر الشيوعي والماركسي بشكل ديني طلسمي وكأن الاستنتاجات لا تأتي من
المجتمع وتلاطماته بل من الواح محرمات ”يجوز" و"لا يجوز“ الخروج عنها، فان نفس
هؤلاء الرفاق "العماليين" قد جروا الموضوع قبل تراجعهم الاخير من دوغمائية السؤال ”
هل يجوز ام لا يجوز.." الى تبريرات اكثر دهاءا ولكنها قديمة، من قبيل ”يجب ان نكون
عمليين" و"ان الناس تنتظر التغيير..ونحن نسعى للتغيير..." وهلمجرا. اقول قديمة لان
هذه التبريرات نخرت جسد الحركة الشيوعية منذ 150 سنة
وتحديدا منذ ان قرر ”الاشتراكي“
لاسال المساومة مع بسمارك
للحصول على تنازلات من الرجعية الملكية وتحت مبرر "الحصول على مكاسب للعمال“.
وقد فضحه ماركس
بلا هوادة.
مقولة "السياسة العملية" او الواقعية اذن هي مقولة برجوازية صغيرة. صحيح ان
البرجوازية الصغيرة اليوم لم تعد موجودة كطبقة في العراق كما كانت قبل سنين ولكن
نمط تفكيرها وعقليتها مازالت معشعشة. عقلية البرجوازي الصغير متبذبذبة وانتهازية
بطبيعتها، كعقلية المثقف الليبرالي. هي تميل الى الثورية المنتفخة وقت قوة الحركة
العمالية ونحو المساومة الذليلة مع البرجوازية وقت الركود. والهدف هو الحصول على
موطئ قدم مع الكفة الارجح؛ مع البرجوازية باسم العمال ومع العمال باسم الشيوعية.
وهكذا، فان معنى كلمة "العملية" و“الواقعية“ تشير بوضوح الى ذلك التذبذب وابقاء خط
العودة مفتوحا.
وحين يبرز النقد العمالي الثوري ضد المجتمع الرأسمالي وضد قوى
البرجوازية الدينية والقومية المغرقة في الرجعية، وحين تكشف اعمالها وتفضح خططها،
وتنتقد مشاريعها، ويفضح برلمانها، وحكومتها، ودولتها، وكامل "عمليتها السياسية"
الكاذبة والتآمرية ضد الجماهير يقولون لنا: هذه نظريات وكلام غير واقعي. انتم
تكتفون بالنقد والانتظار، انتم نظريون وايديولوجيون، لستم عمليين. هناك انتخابات !
الناس تريد الحل!! نحن سياسيون عمليون وواقعيون لاننا نشارك في العملية السياسية.
وسنمثل العمال في البرلمان و“نفرض على قوانينهم التراجع...“!!. ولان العراق يعيش في
كارثة مستمرة منذ سنين طويلة، فان الكفة ليست بصالح العمال ولا الجماهير وعليه فان
من المستبعد انهم يركبون على اية موجة ثورية. ها نحن قد رأينا كيف
انتهجوا المساومة مع سلطة الميليشيات الاسلامية والقومية، مع
جلال الطالباني اولا، ومع الاسلاميين "المعتدلين" ثانيا، ومع الاسلاميين
"الارهابيين" ثالثا، ومع البعثيين السابقين رابعا وخامسا. وكلها بحجة " ان الاوضاع
تسير نحو التطبيع"! و"نحن عمليون وواقعيون". وفي كل مرة كان نصيبهم الفشل. وحين
حصدت الانفجارات الاخيرة الاف البشر في عمليات تفجير ارهابية
كانوا قد خدعوا المجتمع قبلها، تماما كما فعلت سلطة المالكي
والطالباني بان الامور "تسير نحو التطبيع" وان الدولة اصبحت راسخة، تراجعوا فجأة عن
خطة المساومة تلك
(اي عن اعلانهم الاشتراك في الانتخابات) واصدروا بيانا
اعربوا به عن عدم توفر الشروط المادية السليمة لاجراء انتخابات وان عدم الغاء قانون
الانتخابات هو السبب لقرارهم (وكأن كل شئ اخر في العراق غير مجحف ولا مغرق في
الحقارة الا هذا القانون الذي قلب حساباتهم رأسا على عقب).
ان من العجيب حقا ان يقولوا عن انفسهم انهم شيوعيون واقعيون ولكنهم لا يعتبرون ان
التفجيرات والقتل والارهاب وتسلط تلك القوى المجرمة واقعا ماديا (وليس حقوقيا فقط
من خلال اصدار قانون او قرار) ويعتبرون ان صدور قانون هو المؤشر المادي على
”واقعية“ الواقع. قانون الانتخابات هو الذي غير قناعاتهم ولكن الواقع المر منذ 7
سنوات ليس واقعا بما يكفي ليفهموا
!
تراجعهم اليوم الى موقف رفض الانتخابات ليس طبعا بسبب تصاعد الوضع
الثوري مثلا، بل
تأكدهم في ان اشتراكهم سيعني نهايتهم المحتمة وباثر النقد
الثوري للشيوعية العمالية بالاضافة الى الصراعات الناشبة داخل صفوفهم بين مؤيد
ومعارض للمشاركة ليس بسبب نقد العملية التساومية نفسها بل بسبب الزعامة الحزبية.
ان شرط فهم قولهم بالسياسة "العملية" او الواقعية لا يمكن الا داخل
اطار
العملية ”السياسية“ للقوى الرجعية الاسلامية والقومية. ان ما دعوه
سابقا بالموقف العملي يعني واقعيا
الموقف "المناسب"، ليس للعمال والكادحين والمحرومين والنساء
بالطبع، فلا وضع مناسب للجماهير بظل سلطة هذه الوحوش البشرية، بل انه مناسب للاحزاب
والمجاميع والمافيات الاسلامية والقومية في السلطة. ان التأييد الاولي للحزب
"ألشيوعي العمالي" العراقي للاشتراك بالانتخابات كان سيعطي، بل انه اعطى بالفعل،
وكما وضحنا في بيان حزبنا، الدعم لقوى السيناريو الاسود الوحشية وعلق على صدر
سلطتهم و”ديمقراطيتهم“ نياشين الشرعية. الا يدعي المالكي والصدر والحكيم والسستاني
وغيرهم من الاسلاميين والقوميين والعشائريين بانهم ديمقراطيين؟ حتى حين يقطعون رؤوس
النساء ويرمونها في سواقي البصرة والثورة والنجف، وحتى حين يعذبون المعارضين في
الاقبية بـــ”الدريل“ ويسلموهم الى كلاب الجيش الامريكي البوليسية، فانهم يفعلون
ذلك باسم ديمقراطية "ألاكثرية المسلمة".
ما كان اكثر رشدا من ان يتم دمغ "برلمان" الاسلاميين والقوميية بختم الطبقة العاملة
وباسم "الشيوعية العمالية"! هل ثمة موقف اكثر ”عملية“ و“واقعية“ من هذا ؟. ولكنهم
لم يتمكنوا من اتمام المشروع فنهايته غير نافذة.
والان لننتقل الى "خطيئتنا" النظرية
!
فقبل ان يغيروا موقفهم الاخير، اظطروا لخوض النضال النظري هم انفسهم
وذلك بـــ“جرجرة” لينين وروزا لوكسمبرغ وتحويل قادة الاشتراكية الى ابواق
للانتهازية. وعدا عن ان الاستشهاد بمقولات لينين حول الاشتراك بالانتخابات مستلة
بشكل غائي ونفعي وبفهم ميكانيكي
فان اهم ما يقال عن الموضوع هو ان المحصلة النهائية لثورة
اكتوبر واستيلاء البلاشفة على السلطة لم يكن مطلقا بسبب برلمانية الحزب البلشفي بل
ثوريته. فنجاح البلاشفة وانتصارهم واستيلاءهم على السلطة السياسية واعلان
الاشتراكية لم يكن الا على اساس نضالهم الطويل والدؤوب داخل صفوف الجماهير
والعمال وما دخول الدوما (مع التأكيد على الاختلاف الجذري
لذلك البرلمان تاريخيا ونوعيا مع المجلس الاسلامي العشائري المهزلة في العراق) الا
تاكتيكا ولكن ضمن مسار ثوري من الفه الى ياءه. و لو راجعنا مسار "الرفاق" منذ عام
2004 حين صرخوا ”عاشت الحكمتية“ فماذا سنجد غير المساومات المغلفة بالثورية اللفظية
؟!
ماركس، الذي لم يسع احد
لاقحامه في تلك ”المعمعة“ لم يكن حتى تاكتيكيا بالمعنى اللينيني. كان شديد النقد
لاي مساومة مع البرجوازية دون وجود قوة حقيقية في المجتمع تسند ظهر العمال وحزبهم.
وفي المقتطف التالي يتحدث ماركس عن حزب يساري داخل البرلمان الفرنسي بعد الثورة
الفرنسية الكبرى في القرن الثامن عشر حين كان يعج بالقوى البرجوازية الراديكالية
ولكنه رغم ذلك شدد وبكل وضوح ان لا مكان لليســار العمالي في البرلمان، وان نجاحهم
في البرلمان سيعني موضوعيا خسارتهم الشارع (فما بالك بحزب لا يمتلك حتى زقاقاً
):
"
اذا كان حزب الجبل * يريد ان ينتصر في البرلمان لزم عليه الا ينادي بحمل السلاح،
واذا ما نادى من داخل البرلمان بحمل السلاح، لزم عليه الا يسلك في الشارع سلوكا
برلمانيا
". **
اليوم تراجعوا عن موقفهم بالاشتراك في الانتخابات والمشاركة في
العملية
اللصوصية، ولكن المؤشرات تقول بانه تراجع تاكتيكي هو الاخر.
واخيرا فليس لا لهؤلاء سياسة ”عملية“ ولا لاولئك عملية ”سياسية“. ومن غير المحتمل
ان تتغير خطة المساومة والغزل رغم قرارهم الاخير.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*حزب
الجبل حزب يساري شارك في برلمان الثورة الفرنسية بقيادة روبسبيير وسمي الجبل لجلوس
نوابه في المقاعد العالية في البرلمان.
**ماركس،
الثامن عشر من بروميير لوي بونابارت، 1852.