الانحطاط السياسي في العراق
عصام
شكـــــري
يمر العراق بمرحلة انحطاط شاملة تعم جميع مفاصل الحياة. احد اوجه ذلك الانحطاط الشامل هو الانحطاط السياسي؛ بمعنى انحطاط القوى السياسية التي تسيطر على المجتمع. ان سبب انحطاط الاوضاع هو انحطاط الطبقة البرجوازية، ليس على صعيد محلي في العراق حسب بل على صعيد عالمي ايضا. فالطبقة البرجوازية بكل الوسائل التي بمتناول ايديها، عدا وسائل الانتاج، فهي تمتلك اهم وسيلة حاليا " لانتاج " الانحطاط واعادة انتاجه، واقصد الصحافة ووسائل الاعلام من فضائيات واذاعات وثقافية كالكتب والمجلات والمطبوعات والصحف واكاديمية كالجامعات والمعاهد والمنتديات الثقافية والادبية وغيرها. ورغم ان البرجوازية هي التي تسيطر بشكل كامل على وسائل الاعلام العالمية وهي التي تقوم بتمويلها وبالتالي التحكم فيما يناسب مصالحها لعرضه للحط من ارادة الناس سواء على صعيد الاعتراضات او النقد او اظهار المساوئ والانتهاكات الاجتماعية التي تقوم بها تلك الطبقة، او الحركات الاعتراضية ضدها، او الكوارث والمصائب التي تحل بقطاعات واسعة، و تشويهها، او جرجرتها لاجراء اصلاحات تافهة جدا، لا انهاء المظالم واللا مساواة او انعدام الحريات مثلا، بل لتخفيف النقمة. حدث ذلك على سبيل المثال حين ابرز عمالقة الاعلام العالمي ( السي ان ان ) و ( البي بي سي ) و ( الدويتشه فيلا ) و (مونت كارلو) وغيرها النقمة الجماهيرية الواسعة النطاق في اوربا وامريكا خاصة ضد الازمة الاقتصادية الاخيرة واظطرت الى ابرازها لا من اجل الدعوة الى اجراء تغييرات اساسية او تعبئة القوى لاجراء تلك التغييرات بل على العكس من اجل اجهاض، شل، وتفتيت اي اعتراض و"قتله" في مهده. ورغم الدور الذي لعبه الاعلام والاكاديميون على صعيد عالمي للترويج للرأسمالية كنظام اقتصادي ابدي وازلي وافرازاته المهترئة كالدين والطائفية والقومية كمنتجات ”ثقافية“ والدفاع عن جرائم وانتهاكات الدول على انه “الحفاظ على المجتمع“ وتمجيد الحركات والانظمة السياسية الرجعية والوحشية المعادية للانسانية والمرأة على انها انظمة مقاومة او صاحبة ”مشروع بديل“، او الترويج الاكاديمي لافكار انهزامية وتوفيقية من اجل اهماد الحركات العمالية او الاعتراضية ، فان الامر في العراق يتجاوز ذلك بكثير.
فالاعلام والصحافة والفضائيات والجامعات ومراكز البحوث ”العلمية“ والحركة الفنية والادبية والموسيقية والتشكيلية وما يعرف بالبنية الثقافية في المجتمع او ”الثقافة“، وكل مظاهر الحياة العامة ( المدنية ) للمجتمع العراقي هي في انحطاط شامل لم ير العراق مثله في تاريخه المعاصر. ذلك، وان كان جزءا من تلك الازمة العالمية التي قلنا ان سببها الاساس انحطاط وتفسخ الطبقة البرجوازية كطبقة اجتماعية مسيطرة ويفضح عجزها عن اللحاق بتمدن وابداع وانسانية المجتمع والجماهير ( ويعكس بشكل مادي وليس اخلاقي حقيقة ان الطبقة العاملة هي الطبقة المبدعة بحكم كونها المنتجة )، ونفاذ كل بديل انساني او ابداعي للبرجوازية وتجفف اي قدرة لها على اعادة انتاجها دون هراء وخرافات ونفايات الفكر والممارسة، فان حال العراق هو مثال نموذجي صارخ لا فقط للوحشية التي مورست في هذا البلد، بل ايضا، وهو موضوعنا اليوم، للدمار الثقافي والانحطاط السياسي وبتعبير اخر، لمجمل ما يسمى ”البنية الفوقية ” للمجتمع.
وبالطبع فان الموضوع لا يتعلق بجواب سؤال من قبيل: " ولكن هل كان الوضع أحسن زمن صدام حسين ؟“. لان الموضوع لا علاقة له ب“استبداد“ هذه الحكومة او تلك، بل بنفس وجود المجتمع المدني. حين انهار المجتمع المدني في العراق انهيارا شاملا نتيجة الحرب الكارثية واقتلاع الدولة وانعدام الامان وهو احد اهم اركان المجتمع المدني، وما اعقبه من تسليط الدين والطائفية والمذهبية والعشائرية واعتبارها ركائز جديدة للمجتمع، تفكك المجتمع المدني كليا. ورغم ان المجتمع في العراق كان يعاني من الانحدار التدريجي نتيجة فرض الغرب ( ممثلا بالامم المتحدة ) الحصار التجويعي لمدة اكثر من 12 سنة على الجماهير، وادامة صدام حسين لسياساته الاسلامية "الايمانية" والعشائرية بعد افلاس وتراجع القومية العربية المقاتلة اثر حرب الخليج وانهيار مشروعها كليا، تعرض المجتمع بعد العام 2003 الى "تفجير" بالمعنى الحرفي للكلمة، وشن الحرب المجزرة والتي ادت سريعا لا الى تغيير السلطة فحسب، بل الى اقتلاع كامل جهاز الدولة ما ادى الى احداث فراغ vacuumارجع المجتمع الى مرحلة المجتمع البربري ( تماما كما هدد به ساسة الانحطاط انفسهم وعلى رأسهم بوش ورامسفيلد). لقد حدثت في العام 2003 و2004 اعمال نهب وسلب وتدمير واحراق واسعة النطاق تم خلالها هجوم العصابات والميليشيات الاسلامية على كل مؤسسات المجتمع المدنية من حكومية واهلية كدوائر الصحة والمستشفيات ومديريات التقاعد ودور الايتام والعجزة والمدارس والجامعات، والمنتديات، والنقابات؛ سرق الاثاث، افرغت الابنية كليا من محتوياتها، اشعلت فيها النيران، امام مرأى الجنود والضباط الامريكان وسخريتهم البلهاء (كان رسم علامة النصر اهم لديهم من اي شئ اخر!). في حينها سأل الصحافيون السياسيين اليمينيين الامريكيين عن سبب عدم تحريكهم ساكنا وهم يرون مقتنيات المتحف الوطني العراقي تنهب بالكامل على مرأى ومسمع ضباط الجيش الامريكي ( مقتنيات من العصور السومرية والبابلية والاكدية والاموية والعباسية وغيرها لا تعوض) رد هؤلاء " لم نأت للقيام باعمال الشرطة او الحفاظ على الامن بل لتحرير العراق من طغيان صدام“ او ”لم ندرب قواتنا على القيام باعمال البوليس".
اما الضباط والجنود الامريكان فكانوا ينظرون الى اعمال التدمير التي قامت بها الميليشيات الاسلامية والقومية والعشائرية بحيرة، فلم يعرفوا ان كان ما يتم من نهب وسلب هو جزء من خطة قيادتهم السياسية، ام انها مجرد فوضى ”خلاقة“!! كما كان يروج جورج بوش وديك تشيني ورامسفيلد وفولفوفيتس ؟!. ورغم جرائم قتل الناس بالتجويع لمدة 12 سنة قبيل الحرب الاخيرة ( والذي زاد من جبروت نظام صدام حسين على عكس ما ادعوا في انهم يريدون احتواءه ) ، فان المجتمع في العراق ظل في تلك السنوات متمسكا باهداب المدنية والتمدن الاجتماعي ليبقى محافظا على حد ادنى من ”الكرامة المدنية—الانسانية“ ان صح التعبير. كان المجتمع ”يقاتل“ من اجل ان يحتفظ بمدنيته التي بناها بالدم والنضال والكفاح من اجل مكانة المرأة ، من اجل الفن والثقافة والابداع، من اجل الجامعات وتوفير التعليم المجاني، من اجل الصحة والرفاه، من اجل رفاه الطفولة وابقاء تلك القشة مع بقية الجماهير المتمدنة في بقية انحاء العالم. ولكنهم لم يدروا ان ساسة اليمين الامريكي كانوا مصرين على ”ارجاع العراق الى العصر ما قبل الصناعي“ !!
الحرب الامريكية في العام 2003 ادت الى دمار واسع النطاق في البنية التحتية - الخدمية للمجتمع؛ تعطل الكهرباء كليا وتوقفت المعامل والصناعات والخدمات وانقطعت مياه الشرب والارواء، تلوثت الانهار واصابها الاهمال، انهارت الزراعة، انتشار الامراض ورجعت الاوبئة الخمسينية للعراق، انهار النظام الصحي بكامله (مجاري الصرف الصحي والنظام الاستشفائي وغلو وفساد النظام الصيدلي وبيع الادوية التالفة على الارصفة وتراجع التعليم بشكل كبير بعد مجئ الملالي والمشايخ ومؤذني الجوامع ليدرسوا فيه وينشروا مبادئهم العنصرية والتمييزية بين البشر من مرحلة الطفولة. تلك الظروف التي كانت الدولة الامريكية باداتها الاجرامية ( الجيش ) قد هيئتها من اجل استجلاب االقوى الميليشياتية الاسلامية والقومية والعشائرية والاثنية والمذهبية ونصبتها كممثلين " للشعب " هي التي ادت الى توجيه الضربة النهائية للمجتمع المدني في العراق وسحقه حين ملئت فراغ الدولة بهذه الميليشيات الدينية والقومية والعشائرية.
لقد انحدرت الحياة في العراق الى درجة باتت معها عبارة " غابة للوحوش " تبدو عاجزة كليا عن التعبير عما يحدث. اصبح القتل والتلذذ بمرأى الجثث الممزقة والمتناثرة وممارسات الدين واخبار الاعدام ومنظر الدماء السائلة على الارصفة واللطم على الوجوه والبكاء والعويل حزنا على الضحايا، او لممارسات دينية سادية مريضة، منظرا مألوفا في العراق. اليوم، وبعد ان يأست الميليشيات الاسلامية والقومية من التمزيق الشامل للمجتمع بالدين والقومية والاثنية والعرقية والعشائرية فان نفس هؤلاء بدأوا يسمون انفسهم ب " الوطنيين "!. ان ذلك سببه يأسهم من نشر افكارهم الوحشية والتمييزية بين البشر، فلا الاسلاميون نجحوا في تقسيم المجتمع على اساس الدين ولا القوميين الفاشلين اصلا يمتلكون اي حظ في اعادة سطوتهم وهم ”يسحلون“ خلفهم تاريخا من الدم. كفرت الجماهير بالاسلام وبالقومية العربية والقومية الكردية وكل قومية وهي اليوم تبحث عن شئ اخر انساني ومتمدن. ظهرت عفونة القوى السياسية وانحطاطها اكثر واقوى من اي مكان اخر. أياد علاوي، الذي لفق وثائق الحرب الاجرامية والذي يصر على ان يبدو ”وطنيا“ اكثر من غيره من المعميين او اصحاب الميليشيات الارهابية يعيد انتاج نفسه اليوم مع بعثي—اسلامي اخر هو صالح المطلك. مقتدى الصدر، صاحب الجيش الطائفي ذو السجل الدموي، صار ايضا وطنيا يعمل التحالفات ”السياسية“ مع عدوه اللدود "عدي ( عمار) الحكيم" الذي كفر الناس في جنوب العراق به وبقوات"بدره". اما المالكي المفلس سياسيا ودينيا وطائفيا فان توصيات ”القيادة“ الامريكي كانت اقدم عهدا به في التحول نحو الوطنية و ”دولة القانون“ ( قانون الغاب ) . وهناك الهاشمي والسامرائي وابو ريشة وو....بقية القائمة من امراء القبائل ورؤساء العشائر اصحاب المليارات والقابضين من الجيش الامريكي والجمهورية الاسلامية والحكومة السعودية والسورية والاردنية والاسرائيلية. كلهم وطنيون الان. كلهم يهدفون الى ”تنظيف” سجلهم من الطائفية والدين والاثنية. ولكن كلهم ميلوسوفيتش وكاراديتش ويجدر ان يقدموا الى محاكمات بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية واعمال التطهير العرقي والديني. هذه هي القوى الحاكمة للعراق نماذج للانحطاط السياسي وتشكل مظهرا جزئيا وان مؤلما لانحطاط شامل الابعاد جلبته الحرب وعالم القطب الواحد لامريكا.
هل سلمت الجماهير من هذا الانحطاط ؟ هل تستطيع ان تحافظ على مدنيتها اكثر من هذا ؟ هل ستستطيع حماية نفسها وانسانيتها من الانتهاك رغم كل بربرية وانحطاط القوى المتسلطة عليها ؟. هذا السؤال وكل سؤال يتعلق بمصير المجتمع ملقى على عاتق الطبقة العاملة وقواها المتمدنة والانسانية وعلى رأسها قوى الشيوعية وطليعتها الشيوعية العمالية وعاتق كل محب للاشتراكية والتمدن وللحرية. انتهت البشرية من البرجوازية وبدائلها. اليوم يجب الشروع بمرحلة جديدة تكون الطبقة العاملة وقواها الشيوعية والاشتراكية والانسانية والعلمانية والمتمدنة، فيها حاملة راية الحرية والانسانية، راية التمدن والمساواة والانسانية.