فتنة
فلم يؤجج العداء والكراهية
عصام شكــــري
ishukri@gmail.com
اثار فلم فتنة ضجة عالمية. وقد نشر الفلم على الانترنيت وشاهده في اليوم الاول ما يقدر ب 3 ملايين انسان لما ناله من دعاية. الا ان المثير للاهتمام هو ان جوهر وطابع الفلم وبالرغم من غلافه الظاهر الناقد للاسلام، هو جوهر أجوف ورجعي و يزيد من اجواء معاداة الانسان لانه يضع الملايين من المعتقدين بهذا الدين والمهاجرين تحت طائلة الهجوم والعنصرية وخاصة في اوربا.
عملا فنيا؟
بداية نقول ان الفلم ليس عملا فنيا. لا يمتلك الفلم تعبيرا جماليا معينا يعبر فيه المخرج مثلا عن واقع اجتماعي محدد او معاناة او تجربة انسانية او حتى تناولا لمسألة العنف ضمن حبكة درامية او روائية او نظرة اجتماعية ابداعية ترسم او ترشد لكيفية معالجته وانهاءه. ان الفلم يتحدث عن تفجيرات واعمال قتل وقطع رؤوس بشكل وثائقي دون بعد جمالي ( البعد الجمالي الذي ينبثق من المشاعر الانسانية او الاحساس بالتحرر من القيود، مقارنة بعمل المخرج الهولندي ثيو فان كوخ ”اذعان“ الذي قتل بسببه من قبل الاسلام السياسي عام 2004).
الارهاب صناعة من؟
ومن جهة اخرى يظهر المخرج ايات القران ليقفز منها مباشرة الى التفجيرات كتفجيرات نيويورك والاعمال الانتحارية وقتل المخطوفين والصحفيين وغير تلك. الا ان الملاحظ ان المخرج لم يشر الى اي حركة اجتماعية مشخصة تقوم بتلك الاعمال الاجرامية . لم يشر الى اي اجواء تنتج هكذا حركة رجعية وارهابية وضمن اي اوضاع سياسية واجتماعية؛ من شجعها واستجلبها من الكهوف لينصبها على المجتمع؟ . لقد جرد الامر الى نصوص ارهابية. ولكن ليس بمقدور النص الارهابي لوحده القفز من الكتب والتحول الى ممارسة دون قوة اجتماعية وسياسية مشخصة تقوم بذلك ودون وجود قوى تحميه وتدعمه وتبرر وجوده. ان الارهاب صناعة حركة الاسلام السياسي وهي حركة سياسية مادية تمتلك وجودها ضمن العالم المعاصر وداخل المجتمع لا في بطون الكتب؛ النظام الاسلامي الحاكم في ايران ، النظام الاسلامي في السعودية، تنظيمات القاعدة والميليشيات الاسلامية في العراق والباكستان ومصر وحتى في اوربا. تلك الحركة تقوم بارتكاب الجرائم واعمال القتل ولكنها ايضا تنتهك حقوق النساء والملايين منهم كل يوم. المخرج لم يشر الى ذلك ويبدو ان الامر لا يعنيه. ان تركيزه على الايات القرآنية جعلته يمتنع عن مواجهة تلك الحركات، وعن تبيان السبب الاساسي في وجودها ولمَ العالم اليوم غارق بهذه الاجواء الرجعية والمتخلفة ولماذا التراجع والنكوص الثقافي والمعنوي للمليارات من البشر في كل انحاء العالم، والذي بقدر ما سببه الخواء السياسي والفكري للطبقة البرجوازية المسيطرة على الحكم ورأس المال بقدر ما تعيد انتاج ذلك الخواء مرة اخرى وتسلطه على الجماهير. لم يشر الفلم الى دور دول الغرب وخاصة امريكا ونظامها العالمي القائم اساسا على اخراج الدين من الجحور بعد ان رمته البشرية في مزابل التاريخ منذ فترة طويلة . لم يشر كيف ان امريكا ومفكري اليمين قد اوجدوا مفاهيم صراع الاديان والحضارات والطوائف وخلقوا هذا النزاع الدموي والرجعي. اهمل مخرج الفلم عن عمد نقد تلك القوى ولم يشر الى ماتفعله الانظمة الرجعية الحاكمة في السعودية وايران والتي تدمغ شعوبها من قبل نفس برلمان هولندا ونوابه بانها شعوب (اسلامية)، في الوقت الذي يبجل فيه رؤسائها ومشايخها الاسلاميين ويعاملون كانهم قادة في منهي الرجعية ومعاداة للبشر. كلا لم ير كريت وايلدرز في ذلك مرتعا خصبا للارهاب الاسلامي ولكن فقط في نصوص القرآن ( النص المتسامي عن كل مكان وزمان تماما كما يصفه الاسلاميون) وبالتالي حقق ما يريده وهو رمي تهمة الارهاب على اكتاف الشعوب والجماهير — الملايين الذين يوصمون من اليمين بانهم ارهابيين لمجرد ان يشرتهم سمراء وكونهم عمال طالبي للعمل او عاطلين يبحثون عن كرامتهم في اوربا. انه بهذه الطريقة يسدي الحركة الاسلامية مصدر الارهاب ومعاداة التمدن والمساواة والحرية خدمة مزدوجة: يخلي طرفها من المسؤولية تماما من جهة، ومن جهة اخرى يعزز مكانتها الرجعية من خلال تزويدها ب ”وقود“ يميني جديد لادامة حركتها وديمومتها؛ مادة جديدة لتعيد من خلالها بث الاسطوانة المشروخة اياها: الغرب الصليبي يعادي الاسلام ويجب الانتقام من الصليبية واليهودية العالمية واقطعوا رؤوسهم وهلمجرا.
الجماهير هي التي ستزداد حياتها تعاسة وشقاءا من جراء هذا الفلم تعرف ان العنصرية ستزيد وانها ستعاني من رفضها داخل المجتمعات الاوربية وزيادة عزلتها وبالتالي دفعها الى احضان الحركات الاسلامية المسيطرة عليها والمتحدثة باسمها. ان النساء هن اكثر من يعاني من العزلة والتهميش والاستلاب الانساني. النساء القادمات من بلدان يحكمها الاسلام السياسي حيث يعشن خاضعات لشيوخ هذه الحركة في اوربا ولا يملكن الخروج عن واقعهن التعس. يأتي السيد كريت وايلدرز ليزيد من تعاستهن اكثر فاكثر حين يشيع فكرة انهن ارهابيات او امهات—اخوات—بنات لارهابيين . لا يكفي الرجولية ومعاملتهن داخل المنزل كالحيوانات ولكن ايضا ينظر اليهن بقسوة وشك وريبة خارج البيوت ايضا. اي واقع يريد وايلدرز ان يرسخ لهؤلاء البشر؟.
الرسالة النهائية؟
ان الرسالة الاساسية لم تخرج باكثر من الطلب من المؤمنين بالاسلام بتمزيق صفحات من القرآن تحض على الارهاب وابقاء صفحات اخرى عامة. ولنفترض انها طريقة جدية ومسؤولة. ولكن ماذا عن القوانين ضد المرأة والتشريعات حول الوراثة والشهادة والزواج من اربعة ووبقية قوانين ما يعرف بالاحوال الشخصية؟ اي بلاهة ! المخرج لا يعتبر تلك اعمال عنف ولا يستنكرها لان ليس فيها تفجيرات او قتال ”للكفار“. ان الرجولية وتحقير المرأة مسألة مقبولة لديه . اضافة الى ذلك فان المخرج لم يقدم اي اقتراح بتبني العلمانية التي يتمتع هو نفسه بها في هولندا او فصل الدين عن الدولة مثلا او المساواة الكاملة للمرأة بالرجل وجعل الدين امرا شخصيا. انه لا يعتبر انها العلمانية حل لمسألة الارهاب ! بعد كل المشاهد عن ربط القرآن والنص القرآني بالاحداث التفجيرية فان الفلم لم يقدم حلا بمتناول الناس والاحرى انه بالعكس قدم ما يشبه الهزء بالام الناس!. ان الايحاء الذي استخدمه المخرج بان كل من يعتقد بهذا الدين ارهابي هي سمة من سمات الحركات العنصرية المعادية للمهاجرين في اوربا والتي تسقيها ايديولوجيات التفوق العنصري الابيض. ان نقد الدين يبغي رفع شأن الانسان ، اما وضع هؤلاء تحت طائلة الاتهام بالارهاب فهو محاولة معادية لاي انسانية.
” الحرب على الارهاب“
وبشكل عام اوصل الفلم المشاهدين الى استنتاج يصب في مصلحة جورج بوش واليمين الامريكي و المحافظين الجدد فيما سموه "الحرب على الارهاب". انها نفس الرسالة والمحتوى السياسي. بدلا من الدعوة الى جعل الدين امر شخصي خاص بالافراد، وابعاد قوى الدين عن المجتمع المدني المعاصر، يمعن الفلم في خلق ردة فعل وصراع رجعي بين قوى اليمين على جانبي الصراع ساحبا الجماهير الى اجواء مشبعة بالكراهية. الفلم بذلك ليس فقط لا ينبس دفاعا عن العلمانية بل في حقيقة الامر يتخذ موقفا معاديا منها من خلال دفع الملايين الى احضان قوى الاسلام السياسي التي ستجد في تصريحاته تدعيم لاقوالها حول كره ”الصليبيين“ وعدائهم الابدي للاسلام الخ الخ.
وعلى اية حال ولان المخرج قرر ان يجرد الدين من جذره الاجتماعي والتاريخي ويحاكمه كنص معلق في الهواء، فانه وقع في تناقض استثناء الاديان الاخرى من المحاكمة النصية (وخاصة الاديان التوحيدية الاخرى اليهودية والمسيحية) وكانها اديان خارج النقد او انها عريقة في الفكر التحرري والانساني ولا نص فيها يحض على الاضطهاد و القتل او ارهاب الخصم او النساء والعبيد. ان كل دارس للاديان يعرف بان للتوارة والانجيل نصوصا في منتهى الرجعية ضد البشر والمساواة سواء الاقتصادية ام على اساس الجنس. الدين لم يهبط من السماء بل نشأ في عقل الانسان ضمن سياق تاريخي واجتماعي محدد. الاسلام مثلا اقتبس نصوصه وتعليماته وافكاره وممارساته من اديان الاخرى سبقته وخاصة اليهودية (واخرى راجت في مكة) وكذلك الامر بالنسبة للمسيحية. ولكن لم لم يشمل المخرج الاديان الاخرى بنقده ؟ فكلا اليهودية والمسيحية يمتلكان سجلا زاخرا باعمال القتل والابادة وكراهية المرأة واحتقار العبيد والحض على القتل وسفك الدماء.. الخ.
لا اعتقد شخصيا ان المخرج قد سهى عن كل ذلك و خاصة اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار الخلفية الايديولوجية لحزبه والسياسة اليمينية والمعادية للمهاجرين والملونين وللمساواة بين الناس التي ينتهجها ويروج لها في هولندا.