حول النداء الموجه "الى القوى والأحزاب الماركسية في الوطن العربي" من قبل ”جمع من الماركسيين العرب في باريس“
السمات المشتركة للشيوعية التقليدية واليســـار في العالم العربي
الجزء الاول
عصام شكــري
اصدر جمع من المثقفين "العرب" مؤخرا نداءاً موجه الى القوى والاحزاب "الماركسية" في "الوطن" العربي. وان كان النداء قد وقعته كما يذكر البيان مجموعة من المثقفين فانه في الواقع يمثل نموذجاً لنسخة من الشيوعية التقليدية واليسار الهامشي اللاعمالي في العالم العربي والذي يطلق على نفسه صفة الماركسي. ان الموقف السياسي الذي يتخذه البيان من الوضع الراهن موقف برجوازي اصلاحي وقومي - معاد للامبريالية. سأحاول في هذا المقال تبيان طبيعة هذا الموقف السياسي واسباب تعارضه مع الماركسية والشيوعية العمالية. ان نقد النداء بحد ذاته ليس هدفي بل استعمال النداء لنقد مجمل الحركات والميول الشيوعية التقليدية وما يسمى باليسار في العالم العربي وهو على هذا الاعتبار ليس نقدا موجها الى مواقف الشخوص الموقعة على النداء.
السمات السياسية و الايديولوجية
النداء بكليته يرسم ملامح عامة للتيارات الشيوعية العربية التقليدية؛ معاداة الامبريالية والصهيونية، التأكيد على الديمقراطية كــ“هدف” أساسي، الميل الاصلاحي الاقتصادي ورأسمالية الدولة، الاعتذارية للاسلام السياسي والقوى الرجعية وتصنيفها الى صالحة وطالحة حسب موقفها من الامبريالية و"الوطنية"، الميل التحالفي و الجبهوي المستمر ، واخيرا وليس اخراً، الغياب الكلي للافق الطبقي او الاشتراكي او الثوري او الراديكالي ولاي مطلب تحرري ومساواتي ولصق كل تلك الجعبة السياسية بالماركسية والشيوعية. تجدر الاشارة هنا الى ان هذا النقد لا ينبع من اهمية تلك الميول اجتماعيا او سياسيا او فكريا ولكنه يأتي لسببين اولهما: تعريف نفسها بالماركسية وبالتالي تغيير الماركسية بحسب التوجه الطبقي لتلك الحركات من اجل رسم افاق سياسية لنضال العمال توافق تلك الحركات وتعزز مواقعها وطموحها في السلطة، وثانيهما، وعلى اساس السبب الاول النزعة التحالفية والجبهوية المستمرة داخلها من اجل اكتساب القوة من خلال التحالف (ظاهرة داخل اوساط اليسار الهامشي). ان صعود اليسار الشعبوي الاصلاحي في امريكا اللاتينية ممثلا بالرئيسين البرازيلي لولا دا سيلفا والفنزويلي هوجو شافيز قد شد من عضد هذه الفئات من اليسار وقوى طموحاتها السياسية.
السمة الاولى: معاداة الامبريالية
ان معاداة الامبريالية والصهيونية والشرق الاوسط الجديد هو حجر الاساس في تحليل النداء:
"وتداولوا (المجتمعون) حول الأوضاع السيئة السائدة في المنطقة العربية المترتبة عن الهيمنة الامبريالية ورأس حربتها الامبريالية الاميركية التي تهدف عبر مشاريعها المختلقة (الشرق الاوسط الموسع أو الجديد) الى الاستحواذ على ثروات المنطقة واخضاعها سياسيا وعسكريا للنفوذ الامبريالي-الصهيوني. وهو ما أفضى الى احتلال العراق والسعي إلى تصفية القضية الفلسطينية باعتبارها بؤرة الصراع الرئيسية بين مشروع التحرر العربي ومشروع الهيمنة الاستعمارية. كما أفضى كذلك الى شن الحرب الاجرامية التدميرية الأخيرة على لبنان, وأصبحت مجمل البلدان العربية واقعة بين حالة الاستعمار المباشر والخضوع بدرجات متفاوتة وأشكال متنوعة للهيمنة الامبريالية الساعية الى مزيد تقسيم المنطقة وتفتيتها على أسس عرقية أو طائفية رجعية".
ان ذلك تحليل مشترك لكل حركات اليسار القومي. صحيح ان يقال بان الامبريالية الامريكية والغربية تقف اليوم كقوة عالمية تهدف الى الهيمنة على الشرق الاوسط والعالم واستغلال دوله وشعوبه اقتصاديا، الا ان خلف ذلك الطرح يكمن استنتاج سياسي اساسي مفاده ان هناك قوة وحيدة تقف ازاء "الشعوب المظطهدة" وهي الامبريالية. ان ذلك غير صحيح لان الواقع يفند ذلك. فالامبريالية الامريكية اليوم ليست جزءاً من وضع عالمي تقسم العالم فيه بين معسكرين امبريالي غربي ، وتحرري شرقي، كما كان الوضع ايام الحرب الباردة. ان امريكا اليوم تخوض صراعاً ضد قوة مشخصة وهي الاسلام السياسي على صعيد عالمي. هذا الصراع بدأ مع اعلان البيت الابيض "الحرب على الارهاب" ابان احداث نيويورك الفاجعة في 11 ايول 2001. ان تعريف قطب امريكا والغرب وحلف الناتو على انه ”امبريالية“ تمتلك خصائص الاستعمار الكلاسيكية اي "نهب ثروات الشعوب" والهيمنة السياسية يغطي الواقع الحالي من خلال التمويه بان قوى الاسلام السياسي وحركاته الرجعية التي تحارب الامبريالية هي وفقا لمعيار و"مسطرة" معاداة الامبريالية، قوى تقدمية و“وطنية“ تستحق الاشادة لانها تحارب الامبريالية !. هذا الموقف معادي للجماهير ولا ينتمي للماركسية بشئ. انه يطيح بكل الام الجماهير من تلك الحركات الرجعية ويجعل حركة قذرة كالطالبان او الميليشيات الاسلامية التي تحارب امريكا في صفوف القوى التحررية!. ان ذلك يمنح لقوى الاسلام السياسي الصدقية في المجتمع بينما يتحول اليسار القومي والاحزاب الشيوعية التقليدية الى ملاحق بائسة لاكثر الحركات رجعية وتخلفا ومعاداة للحرية والمساواة والتمدن. ان مفهوم اليسارعن واقع الصراع العالمي اليوم ( وبالتالي على كل المسائل المتعلقة بالمجتمع) هو مفهوم قومي لا علاقة له بالماركسية. الماركسية منحت الاولوية لقضية نضال الطبقة العاملة من اجل الحرية والمساواة والاشتراكية والعلمانية والتمدن وكل قيم حقوق الانسان. ان الانتصار لقوى الاسلام السياسي على هذا الاساس هو في حد ذاته اصطفاف طبقي معاد للعمال ولقضايا تحرر المرأة ومساواتها بالرجل وان التمسك بما يسمى "القضايا الوطنية" هو نفس المنهج القومي "الشوفيني" الذي نقده كل من ماركس وانجلز ولينين من خلال نقد الحركات السياسية والعمالية التي سمت نفسها اشتراكية او ماركسية واظهرت في اول منعطف شوفينيتها وقوميتها ازاء قضية الاشتراكية. ان النداء يمثل نسخة معاصرة لعملية تشويه اليسار القومي للماركسية العمالية وتغييبا لامميتها ودفاعها عن العمال ضد مستغليهم البرجوازيين سواء كانوا وطنيين او محتلين.
ان معاداة الامبريالية والصهيونية والشرق الاوسط الكبير هي موقف سياسي قومي وليس طبقي تحرري وعلى هذا الاساس غير ماركسي ولا يمثل مصلحة الجماهير او العمال. ان ذلك العداء للامبريالية على هذا الاساس ليس تقدميا بالمعنى السياسي الواقعي لانه يفسح في المجال لدعم مواقف الحركات الرجعية المعادية لليسار والشيوعية والتحرر والعلمانية والمساواة وقضايا المرأة باعتبارها ”قوى وطنية معادية للامبريالية“.
اما الشيوعية العمالية فقد حللت الوضع السياسي الدولي بعد سقوط القطب الشرقي وغياب القطب المقابل الى الغرب وبروز عقيدة النظام العالمي الجديد لامريكا وقوى اليمين الحاكم فيها وحاجة ذلك القطب لاعادة تعريف نفسه ومؤسساتها وايديولوجيته وكامل مبرر وجوده من اجل ادامة نفوذه العالمي على اسس مختلفة عن تلك في الحرب الباردة وبالامكان الرجوع الى تلك الوثائق واهمها " العالم بعد 11 أيلول" و"بزوغ الفجر الدامي للنظام العالمي الجديد" لمنصور حكمت. انها اليوم تدافع عن الجماهير ضد صراع قطبي الارهاب ومجازرهما المرعبة ضد الملايين من العمال والكادحين. انها لا تنطلق ابدا من الدفاع عن الوطن بل من الدفاع عن انسانية الانسان وحريته ومساواته في أي مجتمع كان.
السمة الثانية: الديمقراطية
يعتبر النداء ان الديمقراطية هي مطلب اساسي للجماهير: " من أجل أن تصبح الحركة الماركسية العربية قوة فاعلة بصفتها المعبرة عن مصالح الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وكل الطبقات والفئات الشعبية, والمعبرة أيضاًعن قيم التقدم والديموقراطية التي باتت مطلباً ملحاً".
ان الماركسية بعرف النداء تعبر عن الديمقراطية ولكنها لا تعبر مطلقا عن الاشتراكية او المجالسية العمالية وهذا بحاجة الى فهم. الماركسية تنتقد بجذرية مؤسسات السلطة البرجوازية بكليتها. لم توفر البرلمانات ولا أي سلطات تمثيلية وفي اكثر الدول الديمقراطية تقدماً. كان بديل الماركسية على الدوام هو المجالسية العمالية (كل السلطة للمجالس - السوفييتات كان شعاراً معروفاً لثورة اكتوبر الاشتراكية). ان الماركسية لا تعبر ولا تنادي باسلوب الحكم الديمقراطي القائم على خداع الجماهير بالصفقات السرية في دهاليز البرلمانات بين اجنحة البرجوازية وتبادل الادوار بينها كل اربع او خمس سنوات من اجل ادامة الاستغلال واعادة دورته بوجوه جديدة. ان الديمقراطية والبرلمانية هي وسائل البرجوازية لشرعنة وجودها في السلطة على رأس المجتمع ولادامة حكم الرأسمال واستغلال العمال وادامة الارباح. انها الطريقة التي بامكانها بها ان تقول للعمال ان البرلمان هو ممثل الشعب ولديه كل تواقيع الجماهير. يعرف كل العمال ان البرلمان هو مكان التآمر على الطبقة العاملة لابقاءها محرومة وضعيفة ومنهكة. حتى جماهير الغرب تعرف اليوم ان الديمقراطية هي عملية مزيفة تهدف الى خداع الناس واغداق الوعود عليها لتظل مقتنعة بحرمانها وثراء البرجوازية الفاحش. ومن جهة اخرى فان الديمقراطية لا يعنيها مطلقا أي اهداف او طموحات للجماهير. ان الادعاء بان الماركسية لها قيم تقدمية صحيح بشكل عام ولكن الادعاء بان الديمقراطية تمتلك لوحدها هذا القيم ادعاء فارغ. الديمقراطية تأخذ شرعية الطبقة السائدة من المجتمع لحكم الاخير من خلال عملية التصويت. ان ما جرى مؤخرا في اليمن من انتخابات لهو دليل واضح على ان الديمقراطية لا تعني الحرية والمساواة، ولا تعني العلمانية والتمدن، ولا تعني انقاذ العمال من البطالة والفاقة والفقر، ولا تعني حرية المرأة ومساواتها بالرجل ولا تعني طرد قوى الرجعية من المجتمع. يكفي ان نشاهد النسوة اليمنيات وهن يجلسن خلف صناديق الاقتراع سجينات داخل اكوام من السواد لاتبرز منهن الا عيونهن لنعرف نعمة الديمقراطية على الجماهير. ومع ذلك فاز حزب الرئيس عبد الله صالح ولم تفز القوة المنافسة والتي كان تظم احزاباً علمانية. هذه هي الديمقراطية السائدة اليوم لا في المنطقة فحسب بل في كل العالم من امريكا التي خرجت جماهيرها بالملايين في شوارع نيويورك تنديدا بالحرب على العراق الى العراق نفسه الذي رسخ برلمانه الطائفي مشاريع القوى والميليشيات الاسلامية والقومية الرجعية المسلطة على المجتمع في التقسيم الطائفي والعرقي مغرقا اياهم في المزيد من دماءهم. ان الديمقراطية لا تأبه باي تحرر او اصلاح او مساواة انها تعبر عن الطبقة السائدة اصلا في المجتمع والمهيمنة على كل مفاصله.
ان ربط اليسارية والماركسية بالديمقراطية والبرلمانية هو في الحقيقة استغلال للماركسية واليسار من اجل امرار مطالب لا علاقة لها بالعمال وبالنساء وباي شريحة في المجتمع تعاني من الحرمان. ان النداء يحاول ان يعبر عن مصالح البرجوازية الباحثة عن الدخول الى البرلمانات الناشئة من اجل احداث تغييرات اصلاحية والحصول على فرصة لتجربة ما سبق ان جربته البرجوازية القومية في العالم العربي في مصر والعراق وسوريا ( نقلا عن الاتحاد السوفييتي) وغيرها وانتهى الى الفشل الذريع؛ سيطرة الدولة على الاقتصاد فيما يسمى بالاقتصاد المؤمم او رأسمال الدولة.
الجزء الثاني يتبع