”نريد وطن“، شعار ايديولوجي ام سياسي؟ّ!
عصام شكــري
ما اريد طرحه اليوم يتعلق بشعار ”نريد وطن“ الذي رفعه الشباب والشابات في العراق وخاصة في التحرير ببغداد وكيفية اساءة فهم هذا الشعار او تفسيره بشكل ايديولوجي لا سياسي. شعار اريد وطن لا يتعلق بالايديولوجيا سواء وطنية قومية او غيرها ولا يتعلق بحزب البعث او اي حزب او قوة سياسية قومية او فاشية اخرى (أزاء الاحزاب الاسلامية والطائفية الحاكمة). ان فهم الموضوع بهذا الشكل خاطئ.
ان تفسيرا لا يرى الاهمية السياسية للشعار كرد اجتماعي وسياسي على السلطة وممارساتها لاكثر من 17 سنة لا يوهم الجماهير الثائرة بخطأ شعارها فحسب بل انه يفعل ما هو اسوأ (عمليا) وهو اتهام الجماهير بانها تلحق قوى قومية وهو ما تقوله سلطة الميليشيات الدينية والطائفية والعشائرية الحاكمة نفسها وتبرير للاعتقالات والقتل بالرصاص الحي والاغتيالات والقمع.
شعار نريد وطنا هو نفي الشارع في العراق وساحة التحرير للمنطقة الخضراء وسلطتها الفاشلة واللصوصية والاجرامية لاكثر من 17 سنة؛ انه رد مباشر على شعار المنطقة الخضراء غير المعلن ولكن المطبق منذ تنصيب امريكا لهم في 2003: ”نريد تقسيم الوطن“ ”سنسلبكم من المواطنة“!. وفي جانب اخر شديد الاهمية فهذا الشعار يشكل نفي وتحدي لكامل نموذج امريكا الذي سعت لترسيخه في تقسيم المجتمع عل اسس دينية وطائفية وقومية وعشائرية منذ 2003 .
شرح موقع العلمانية بوجهة نظر الاقتصاد السياسي مهم لفهم موقعية المواطنة او النظام العلماني وتطور مفهوم العلمانية تأريخيا. العلمانية نموذج للدولة رفعته الطبقة البرجوازية. ولكن هناك من قد يسأل:لم اذن تقوم الطبقة البرجوازية الحالية (ليس في العراق بل في كل مكان في العالم) اليوم بنفي ما قامت به قبل اكثر من 200 سنة وهو جلب العلمانية ومفهوم المواطنة؟ لم تريد البرجوازية اليوم استخدام الدين والعشائرية لتقسيم المجتمع من جديد الى ”كيانات“ ومحاصصات وتنصيب ملالي وشيوخ عليها؟ برأيي هذا اعتراض واقعي.
ولكي اجيب على ذلك ارجع الى مسار الرأسمالية منذ 400 سنة الى الان. في البداية كانت ”المساواة“ الحقوقية ضرورة قصوى لقلب علاقات الانتاج في المجتمع؛ ولتحويل ملايين من الاقنان الاوربيين الى عمال مأجورين في معامل الطبقة الرأسمالية الناشئة حديثا والمتطورة بسرعة مذهلة. وكان من الضروري جذب هؤلاء الاقنان من خلال سن قوانين تجيب على مسألة الحرية والاخاء والمساواة (شعار الثورة الفرنسية يفسر كل شئ لحد اليوم). هذه المساواة شكلية وكانت تهدف الى اقناع العمال والعاملات بان النظام الجديد اكثر عدالة وانسانية. فشرع مجتمع المواطنة بديلا اجتماعيا للرأسمالية عن مجتمع السادة والعبيد الاقطاعي. ولكن الرأسمالية اليوم وصلت لطريق مسدود.
فهم هذا اساسي لادراك سبب ان راية العلمانية انتقلت الى ايادي اخرى؛ الى طبقة اخرى؛ طبقة هي الوحيدة التي تعد ثورية اليوم. وهكذا بدأ الرأسماليون بنفي العلمانية والمواطنة نفسها (اي خيانة مؤسسي العلمانية البرجوازيين انفسهم—انظروا ما يفعله ترامب ازاء الدستور الامريكي العلماني مثلا بتحالفه مع قوى الكنيسة الانجليكانية وهلوساته الدينية ومحاربته للعلم والعقلانية). لقد جلب الرأسماليون اقذر قاذورات الاديان والطوائف والفكر القومي الفاشي والعشائرية وسلطوها على رؤوس الجماهير. الدين والعشيرة والطائفة والقومية ليست ”قيم الجماهير“ كما يقول اليمين في كل العالم؛ وكما يصرح الحزب الشيوعي العراقي المتحالف مع مقتدى الصدر، او كما يقول ترامب او حكومة الجمهورية الاسلامية في ايران. ان هذه المبادئ التقسيمية الرجعية ليست جزءا من المجتمع ولا تمثل باي شكل من الاشكال وعي المجتمع ولا حتى تأريخه كما يحاولوا الترويج.
حين يطالب الثوار والثائرات في ساحة التحرير ب ”وطن“ فهم يعبرون عن شوقهم للمواطنة والمساواة والحرية الفردية وللتمدن والحداثة والعلم والفكر العقلاني ومساواة النساء وقدرتهم على النضال بهامش اعلى من الحرية والاحساس بالحماية. يريدون ان يكونوا افراد مجتمع متساوين ولكنهم يثورون على نظام باكمله وخاصة نظام لا يعاملهم كبشر متساو بل كاتباع وقطعان لمعممين متخلفين وحمقى وقادة ميليشيات فاشست لا يريدون ان يقترنوا بهم لا من قريب ولا من بعيد.
اذن العلمانية اليوم او دولة المواطنة المتساوية او (اريد وطن) لن تأتي اليوم على يد الطبقة الرأسمالية، بل بالظبط رغم انف هذه الطبقة التي وصلت الى جدار اصم غير نافذ وتحولت الى طبقة عاجزة ومتفسخة وليس لديها اي قدرة على تحسين ظروف معيشة الجماهير ولا كرامتهم ولا تمتلك في دستورها اي قيم تحررية للمجتمع لا شكليا ولا جوهريا.
الطبقة البرجوازية هي اليوم كما يتضح طبقة في منتهى التخلف والرجعية جلبت الدين والطائفية والفكر العشائري البليد والقومي والفاشية والعنصرية لكي تبعد العلمانية التي خلقتها هي ضد طبقة اخرى بائدة هي الطبقة الاقطاعية. ولكن كما ان الطبقة البائدة للنبلاء والاقطاعيين وملاكي الاراضي قد خرجت من التأريخ بازاحة نظامها الاقتصادي—السياسي، فان الرأسمالية وحماتها ستخرج ايضا من التأريخ على يد الطبقة العاملة التي هي اليوم رافعة راية العلمانية. وما نراه اليوم مجرد بداية.
اريد وطن او نريد عراق هو شعار (اريد مجتمع مواطنة) وهو شعار سياسي قوي موجه ضد السياسة العملية للمنطقة الخضراء وحماتها الاسلاميين والقوميين وايضا ضد نموذج امريكا لدولة الكيانات او كما يسموه الموزاييك او الفسيفساء وبقية التبريرات لا لشئ الا لادامة التقسيم التعسفي والوهمي للجماهير.