الهدوء الذي يسبق الطوفان !

الجزء الثاني

سمير نوري

 

وبهذا المعنى فإن أوضاع كردستان ومعها العراق ايضا" أقرب الى مصر وتونس أكثر من أية جهة اخرى. وبهذا فان القوموية الكردية وأوضاعها المستمرة منذ عشرين سنة هي ثمرة انهيار جدار برلين وحرب الخليج وبفضلها اكتسبت ذلك الموقع والنفوذ أثناء العملية السياسية وحرب الخليج وكذلك بالاضافة الى خلفية الخدمات التي قدمتها الى امريكا والغرب، فبعد11  سبتمبر والحرب على العراق التي سميت بعملية تحرير العراق ! رفعت القوموية الكردية الراية الحمراء امام الجيش الامريكي بغية ارشادهم أثناء العمليات العسكرية أماكن التوتر باللغة الكردية وهذا يعنى القيام بدور التجسس للعدو وهذا بدوره أدى إلى غرق العراق في الحرب الطائفية والقومية والدينية، واننا في ذلك الوقت حذرنا الجماهير من نتائج تلك الحرب. وقد نزل أكثر من 30 مليون انسان الى الشوارع في مختلف عواصم العالم للتعبير عن سخطهم واحتجاجاتهم ضد تلك السياسة الامريكية، وحاليا" بعد هذه الموجة من الثورات فأن تلك العملية بمجملها أصبحت تحت السؤال، وخصوصا بعد انهيار وفشل المحافظين الجدد المتمثل بالبوشيزم وسياسة المحافظين الجدد (الكونزرفتزم) وعجزها في معالجة أوضاع جماهير العراق والقضية الأمنية والبطالة والفقر وفقدان مختلف الخدمات الانسانية، ولذلك فلا تلائم نموذج أوضاع تونس ومصر مع أوضاع العراق وكردستان، بل ان نموذج مصر وتونس تشكل نموذجا" للسياسات الفاشلة لبرجوازية العالم والمنطقة وهي تشكل أكبر جرح في جسد الساحة السياسية العراقية.

 

كانت خاصية اخرى لهذه الثورات تتمثل بأنها لم تكن على أية علاقة لا بالإسلام السياسي ولا بالقوموية، ولا بأهدافها وأمانيها، ولذلك لم تصبح أي من شعاراتهم وتوجهاتهم لا كمرجع ولا كقائد للقافلة ولا كعنوان  لأي من تلك الثورات وقد وضعوا جانبا" كل تلك القوى والشعارات وذلك الإطار الذي جعل الجماهير والحركة الجماهيرية تتقوقع فيها منذ عشرات السنين، بالاضافة الى أنه لم تظهر في أي مكان الاسلام السياسي والقوموية المتطرفة الذين أزعجوا الناس بشعارات معاداة الأمبريالية والصهيونية على امتداد عشرات السنين ولهذا فتحت تأثير الشعارات والمطالب الجماهيرية تم دفعهم لحاشيةالمجتمع، وقبل أن يقتل أوباما أسامة بن لادن، كانت الثورة في المنطقة قد أنهت حركة أسامة بن لادن، وأثبتوا بأن نفوذهم وأعتبارهم ليس كما أراد الغرب تضخيمها للجماهير وقد أدركت الجماهير بأن نسائم الحرية تهب الآن من الشرق ومن تلك البلدان نحو الغرب وبأن الثورات ستندلع مرة" اخرى في قلب هذه البلدان والذي سعى الغرب جاهدا" باخفائها من خلال تلفيق حرب الحضارات والتعددية الثقافية والنسبية الثقافية في العالم المتمدن، وان الذي حدث أثبت على العكس بأن الحرية هي مطلب عالمي شمولي ويحتل قمة أولوياتهم. ولذلك كانت أنتفاضة جماهير كردستان والنزول الى الميدان من أجل الحرية والخبز والخدمات وأن المضحين من بين المتظاهرين قد ضحوا بحياتهم من أجل هذه الأهداف الذي لا زال المتظاهرين في تونس ومصر يناضلون من أجل نفس الأهداف في كل يوم ولحد الآن لم يذهبوا الى بيوتهم، ولذلك فالماء والكهرباء، والحرية السياسية وحرية التعبير عن الرأي كانت تشكل مطالب جماهير كردستان، وهذه المطاليب ليس فقط في مصر وتونس، بل بالنسبة لكل المناضلين في سوريا واليمن وليبيا وإيران وكل جماهير المنطقة، تعتبر من أهم الأسباب ليفتحوا من أجلها صدورهم أمام الرصاص يوميا"، ولهذا فإن انتفاضة جماهير كردستان ليس لها أية علاقة بمطلب الدولة القومية وزعيق القوميين بل تم هيكلتها بشكل معادي للقوموية الكردية تماما".

 

فاذا كان هناك اختلاف يذكر فهو يتمثل بان تاريخ حاكمية مسعود البارزاني وجلال الطالباني الممتدة منذ عشرين سنة ربما ستكون أقصر من حاكمية بن علي وحسني مبارك. فمنذ عشرين سنة فرض الأتحاد الوطني والحزب الديمقراطي والقوموية الكردية سيطرتهم على كردستان ولم يترددوا لحظة" واحدة من التوقف عن عمليات النهب والسرقة والفساد وهي لحد الان مستمرة وبهذا النهب والعشرون سنة لم يعجز هؤلاء فقط عن توفير الكهرباء والماء الصالح للشرب وبقية الخدمات الانسانية الأساسية، بل قاموا أيضا" بتقسيم كردستان الى عدة كانتونات ومناطق نفوذ مليشياتية ولذلك فقد أصبحت ظاهرة أهم ما يميز سياساتهم اللاإنسانية بالإضافة الى قيامهم بانتهاك حرية الرأي وحرية الصحافة والحرية السياسية وعلى أثرها وصلت الفوارق الطبقية والفجوة بين الطبقات والفرق مابين الفقراء والأغنياء الى أوجها، وعلى هذا الأساس لم يتحمل جماهير كردستان هذه الأوضاع أسوة" بجماهير كل المنطقة وباتوا يعلمون جيدا" بأن هذه الأوضاع لا تعالج بالوعود والطريق الذي يسيرون وسيسيرون فيه وان مبتغاهم هو نفس الطريق الذي يسير فيه جماهير المنطقة، وان احتلال ميادين الحرية ليس بوسعه خنق نشوة الحرية في قلوب الجماهير.

أن حركة جماهير المنطقة لا تهدف الى تحقيق الديمقراطية حتى ولو كان بعض فعالي هذه الحركة قد أقروا بها ومن الواضح ان قسما" منهم يقرون بها، سواء بتأثير من الغرب أو من جراء عدم استعداد عنصر الوعي الثوري والشيوعي في المنطقة أو بسبب ضعفه. ويعلم القاصي والداني بأن هذه الحركة نزلت الى الميدان على عكس نماذج التحالف الغربي والديمقراطي والانتخابات البرلمانية وحتى أسوة" بمصر الذي كان فيها شكلا" من الانتخابات وكان قسما" كبيرا" من البرجوازية مثل البرادعي والاخوان المسلمين يشاركون في الانتخابات وكان لهم نواب في البرلمان، الا  ان كل ذلك هو امر مختلف تماما" بالنسبة للعراق لأن كل الوضع السياسي يسير بمراقبة واشراف الغرب والنظام العالمي الجديد وكان الكل في المنطقة يغنون بهذا النموذج قبل أن تقذف هذه الموجة الثورية كل محاولاتهم في مهب الريح. هذا من جانب، ومن جانب آخر البرجوازية مبتلية بالعولمة وتعاني من أكبر أزمة اقتصادية وسياسية وايديولوجية وفي أوربا أصبح اصلاح الاقتصاد أمرا" تعجيزيا"، واذا كان الأمر كذلك فكيف بالامكان أن يستطيعوا في بلد خاضع تحقيق تغيرات اقتصادية وسياسية حتى يتمكنوا بالنتيجة تحت اسم الديمقراطية وقف توسع الثورات عند حد لا تكلفهم الكثير من الخسائر؟ ولذلك فإن التوجه نحو الدمقرطة يشكل من الجانب الاقتصادي والسياسي أمرا" فارغ المحتوى وضعيف جدا ومهزوز ليس بامكانه معالجة حتى أتفه الأمور.

 

ولهذا فلا دولة مؤسساتية قومية أو" الدولة الكردية" أو الدولة القومية " ولا " أوضاع السودان"  أو "الانتخابات المبكرة وحكومة التكنوقراط "، بامكانها أن تعالج قضية الجماهير لأنه ليس لها أية صلة بمطالب الجماهير ولأنه من أجل هذه المطالب نزلت جماهير كردستان الى الميدان، ولذلك فإن المعارضة البرجوازية المتمثلة بحركة التغيير والجماعة الاسلامية والاتحاد الاسلامي عجزت عن التفاوض والمساومة مع الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني للتوصل الى اي نتيجة ذلك لأن ما رفعه الجماهير من مطاليب في ميدان الحرية في السليمانية كان أكثر ارتقاء" وتطورا" من الذي رفعتها المعارضة وفي الحقيقة أنهم ساروا خلف الجماهير وحتى ظهور الجماهير في الشارع كان هم بعيدين عن الشارع والاحتجاج الجماهيري وفي أحيان كثيرة كانوا يتحدثون ضد الجماهير، ولهذا فان ضرورة اتفاق السلطة مع المعارضة دعت الى احتلال ميادين الحرية وبعكسه كان بالامكان ان تستمر المظاهرات. ان جماهير كردستان ومنذ عشرين سنة يختبرون السلطة الكردية ومفهوم " دولتنا! " وقد تكررت مثل هذه الانتخابات لعدة مرات وليس قليلا" هؤلاء الذين يؤكدون بأنهم سوف لن يغرسوا أصابعهم مرة" اخرى في قنينة الحبر للانتخابات وان بوستر أصبع الندم المكسور كان يمكن ملاحظته في كل المظاهرات.  وعليه فان هذه المطالب هي مطالب القوميين الكرد بدا" من مسعود البارزاني ووصولا" الى قسم من مثقفي صفحة هاولاتي الالكترونية ونوشيروان مصطفى ولكن الجماهير بالضد من سلطة البرجوازية الكردية والقوميين الكرد المستمرة منذ عشرون سنة قد نزلوا الى الميدان ودفعوا أوضاعهم هؤلاء عمليا" نحو التسائل وان مثل تلك الأدعاءات لا يمكن أن تصبح مطالب وشعارات الجماهير لأنه ليس بوسعها أن تعالج أي من معاناة الجماهير ولا حتى معالجة حتى أتفه المسائل، وكل ما في وسعهم عمله هو ابقاء الجماهير حتى دورة معينة في حالة الترقب والانتظار، وعلى العكس من ذلك فان مطالب الجماهير، يتمثل بالخبز والحرية وتم اعلان ذلك بصوت عالي.

 

ان النقص الذي يمكن ملاحظته في كل هذه الثورات هو عدم استعداد عنصر الوعي وضعف تنظيم القسم الطليعي والاشتراكي للطبقة العاملة في هذه الثورات وقد كان فعل هذا النقص أمرا" مهما" لتتمكن المعارضة البرجوازية الظهور في الميدان والتحكم بهذه الثورات، وان قمع الشيوعيين ومنظماتهم فيما سبق قدمت الكثير من المساعدة للبرجوازية في حاضرها بهذا المضمار وجعلت البرجوازية لتكون قادرة لحد الان على اتباع تكتيكات مختلفة للخروج من هذا الوضع بأقل الخسائر. ولذلك فإن ملئ هذا الفراغ أمر مهم وهي بمثابة اللسان والذراع بالنسبة للسياسة الشيوعية، أما بهذا الخصوص فإذا تمت مقارنة كردستان بالبلدان الاخرى فسنجد بعض الاختلاف لأن الشيوعيين في كردستان قوة ملحوظة وهم أصحاب تاريخ معروف وعلى الرغم من أن هناك ضعف واضح في هذا المجال ، إلا أنه مع ذلك لاتستطيع البرجوازية عدم اعتبارها قوة، وهم كذلك بنظر المجتمع أيضا"، ولكن تدخل العمال في مختلف قطاعات العمل عجز عن تغيير موازين القوى لصالح الجماهير أسوة" بما حدث في مصر.

 

ولكن بعد المرحلة التي قطعتها الانتفاضة في كردستان فقد تحققت بعض المكاسب التي يمكن اعتبارها تجربة ناجحة، حيث زرعت الثقة بجماهير كردستان ليتأكدوا من أنهم قادرين على ارغام السلطة الكردية وكل رموزها من أمثال بعض المغرورين كمسعود البارزاني ليركعوا أمامها وليضطر على القول بأنني لست مستبدا" مثل بن علي ولذلك فإن تجربتنا لا تتشابه مع تجربة تونس ومصر، وليظهر الاستعداد للقيام بالاصلاح، وبهذا فقد وصلت العلاقة بين السلطة والجماهير الى مرحلة جديدة لاتستطيع بعدها دولتنا وحكومتنا من تضليل الناس  لأنهم الآن بنظر الناس قوة محتلة ومحتلين لميادين الحرية، وهذا يعني ان العلاقة بين السلطة والجماهير هي علاقة عدائية، وعلى أثرها رسخت في نظر الجماهير بأنه ينبغي على هؤلاء التخلي عن السلطة ان عاجلا" أم آجلا" وقد أفرغ الجماهير عن مسألة، أنهم مهما كانوا يمتلكون القوة فأنهم ليسوا أكثر قوة" من مبارك والأسد ولذلك عليهم التخلي عن السلطة. ولهذا فإن الهدوء والسكوت التي تسود الان في شوارع وأزقة كردستان يمكن النظر إليها بأنها ستكون فترة قصيرة ومرة" اخرى سيقوم الجماهير بتنظيم صفوفهم للاستعداد في الدخول لمرحلة اخرى من المواجهة ويحضرون أنفسهم وكأن شيئا" لم يتغير أي بمعنى اخر "نفس الطاس ونفس الحمام"، وفي الجانب الاخر هناك نفس السلطة ونفس القانون والسلطة الفاسدة، فلا هم باستطاعتهم أن يغيروا شيئا" من الوضع و  يعالجون افاتهم وأمراضهم لاسكات الناس حتى فترة معينة ولا البطون الخاوية تملئ بالوعود والتعهدات، ولاالمطالب والأماني والرغبات الجماهيرية تبقى في محلها، ولذلك فان الثورة والانتفاضة هي كالجمر تحت الرماد تفعل فعلها ومن الممكن اندلاعها اسوة" ببراكين ايسلاند التي قد تنفجر في أية لحظة وهي مسألة موضوعبة لا أحد يعلم، مثل تسونامي والطوفان، متى ستقلع وتردم السلطة الكردية بشكل نهائي وللمرة الأخيرة لتحل محلها الحرية والمساواة والحياة الانسانية.