المعارضة البرلمانية في كردستان، بين الضغط الجماهيري وارهاب السلطة!

 

جليل شهباز

gelilshahbaz@yahoo.com

كما هو معروف ان الديمقراطية البرلمانية هي الاطار السياسي والاجتماعي لحركة وتراكم رأس المال أينما كان. ومهما كان شكل ومضمون البرلمانات البرجوازية، فسيبقى الأمر كذلك ولا تشذ عن هذه القاعدة. ولذلك فإن برلمان كردستان ومجمل الحياة السياسية في كردستان تفعل فعلها في الحياة الاجتماعية في نفس الاطار السياسي والاجتماعي، ولهذا فإذا كانت الديمقراطية البرلمانية أو النيابية هي القاعدة المادية لمجمل الحياة السياسية في كل البلدان الرأسمالية العريقة، فإن الليبرالية هي الأيديولوجية الفكرية والسياسية لذلك الواقع الاجتماعي والتاريخي في تلك البلدان. أما الأيديولوجية السياسية للممارسة الديمقراطية والبرلمانية في مختلف النظم السياسية والاجتماعية الرأسمالية العريقة فهي الليبرالية، وهذه الأيديولجية الطبقية للرأسمالية تسمح وتجيز توفر سقف معين من الحقوق والحريات الإنسانية، ولكن ليست لأن الرأسمالية وايديولوجيتها الليبرالية تتميزان بالصفة الإنسانية، حيث أن النظام الاجتماعي البرجوازي مجرد من كل ما له صلة بالنزعة الانسانية وحياة الانسان، بل تجيز بتوفر تلك الحقوق والحريات لأن حركة وتراكم رأس المال تتستحيل أن تتجه، بدون توفرها، نحو تعاظم رأس المال وتوسيع الأرباح الرأسمالية. وعليه فكانت الصيرورة الراسمالية قبل أن ينقسم نظام الانتاج والعلاقات الاقتصادية الراسمالية الى راسمال تابع ورأسمال المركز، بفعل ضرورات التطور التاريخي للرأسمالية،  بهذه الصورة. ولكنه بعد ذلك التقسيم اختلف الأمور. حيث أن المركز سار على نفس المجرى التاريخي للتطور الاجتماعي والاقتصادي للراسمالية وبقي على نفس الوضع القديم فيما يتعلق بالعلاقات الداخلية للنظام الاقتصادي القائم في تلك الأماكن الجغرافية التي تسمى بالمركز، في حين أختلف الوضع فيما يخص علاقاتها الخارجية فتميزت تلك العلاقات، بالنهب والبربرية والتبادل التجاري الغير المتكافئ وتقسيم واعادة تقسيم العالم كي تخضع كل الانتاج الاجتماعي العالمي لسيطرة الكارتلات والتروستات والشركات المتعددة الجنسات التي شكلت لهذا الغرض ووفق ضرورات التطور الاقتصادي للنظام الرأسمالي في عهد الأحتكار والأمبريالية.

 

أما في البلدان التابعة فأصبح الوضع مختلفا" بصورة كلية ذلك لأن مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان خاضع قائم على أساس تلبية الاحتياجات الضرورية لحركة وتراكم رأس المال في البلدان الأمبريالية أوالمركز وبما أن كل العلاقات والنشاط الاقتصاديين في البلدان الخاضعة والمنخرطة حديثا" في علاقات الانتاج الامبريالي قائم على أوضاع اقتصادية واجتماعية خاضعة للمركز، فكان أهم ما يميز تاريخيا" العلاقات الاقتصادية في هذه البلدان تمثل بتوفر أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية مناسبة لانتاج فائض الربح الامبريالي، ولكنه يستحيل توفر مثل هذه الظروف والأوضاع من دون توفر العمل الرخيص وتشديد الاستغلال الاقتصادي لقوى العمل الإنساني. أما بهذا الحصوص فأمر طبيعي، عندما يكون النظام الاقتصادي في أي بلد من بلدان العالم قائما" على الاستغلال الوحشي لقوى العمل الإنساني فلابد أن يكون النظام السياسي القائم على هذه الوحشية والبربرية الاقتصادية نظاما" استبداديا" وقمعيا"، ذلك لأنه من دون القمع والاستبداد سوف لن يكون النظام السياسي قادرا" على حماية علاقات الانتاج الامبريالي لتأمين الحصول على فائض الربح الامبريالي من البلدان الخاضعة، وهذا هو الفرق بين الممارسة الديمقراطية في المركز والمحيط المتمثل بالبلدان الخاضعة. وبهذه الصورة فقد سار جميع النظم السياسية في البلدان الخاضعة على هذا المسار التاريخي حتى ظهور العولمة الاقتصادية التي رافقت انهيار جدار برلين وحروب الخليج الثلاثة التي أولدت النظام العالمي الجديد. أما بهذا الصدد فهناك أمر لابد من الاشارة اليه، ألا وهو أن النظام العالمي الجديد القائم على العولمة الاقتصادية والثقافية والفكرية محدد تاريخيا" على أنها تطور كان لابد منه بسبب التطور المطرد لقوى الانتاج وخصوصا" في ميدان تكنولوجيا الاتصالات الأرضية والفضائية فرافقتها هدم الحدود الجغرافية على امتداد الكرة الأرضية، ولكن هذا النظام العالمي الجديد هو غير ذلك النظام الذي أرادها البيت الأبيض والبنتاكون وبقية الدوائر والمراكز الفكرية والسياسية للنظام الراسمالي، بل نشأء وفق احتياجات وضرورات التطور الاقتصادي للنظام الرأسمالي على الصعيد العالمي. وهذا هو جانبها الايجابي والتقدمي تاريخيا". وهذه النقطة بحد ذاتها قد لعبت دورا" مهما" في التاريخ الانساني المعاصر تمثلت بالمساهمة الفاعلة في انهيار نظام الاستبداد الفكري والثقافي والسياسي في البلدان الخاضعة والتي بفضلها أصبحت المعلومة الفكرية والثقافية والسياسية متاحة للجميع وفي متناول يد كل الذين حرموا منها من مختلف الطبقات الاجتماعية رغما" على أنف المستبدين وانظمتهم الدكتاتورية، ولذلك فخلال مدة قصيرة من تراكم المعلومة الفكرية الانسانية في تلك البلدان رافقتها نقلة نوعية انقلبت على أثرها مجمل الحياة الثقافية والفكرية في هذه البلدان.

 

وقد حدث ذلك الانقلاب فعلا" في الكثير من بلدان الشرق الاوسط ورافقت هذه النهضة الفكرية الثقافية نهضة سياسية جماهيرية فاندلعت انتفاضات جماهيرية ثورية في الكثير من البلدان الخاضعة وأدت الى سقوط بعض الأنظمة الدكتاتورية والبعض الاخر في طريقها الى السقوط.

 

ولهذا فمن جراء تلك الثورة في تكنولوجيا الاتصالات وتأثيرها الفعال في ايصال المعلومة الى كل أرجاء العالم كان امرا" طبيعيا" ان يصاب الممجتمع الكردستاني أيضا" اسوة" ببقية المجتمعات في الشرق الاوسط بالعدوى الثورية التي تطورت فيما بعد وتحديدا" في 17 شباط من العام الجاري الى ثورة جماهيرية وأصبح ميدان الحرية في مدينة السليمانية رمزا" للنهضة الفكرية والسياسية الجديدة لمدة 62 يوما"، إلا أنه نتيجة لتخاذل المعارضة البرلمانية التي استغلت ذلك الظرف الثوري لمآربهم السياسية الرجعية، ونتيجة" لنفوذهم السياسي القوي بين الجماهير الثورية في ميدان الحرية قد فرضوا التراجع السياسي على الجماهير وتمكنوا من فرض أجندتهم السياسية الرجعية على الجماهير والتي تميزت بمغازلة السلطة والحزبين الحاكمين من جهة وممارسة دور سياسي انتهازي ومتذبذب داخل الثورة الجماهيرية من جهة اخرى فحالت دون شحذ الهمم الثورية لدى الجماهير بغية تقوية وتوسع الثورة الجماهيرية لتشمل بقية المدن والمناطق في كردستان وهذا ما ساعد السلطة والحزبين الحاكمين  للانقضاض على الجماهير الثورية واجهاض العملية الثورية في كردستان وفرض الأجواء العسكرتارية على حياة المجتمع الكردستاني ودفع المعارضة البرلمانية الانتهازية ليتقوقع في جحورها السابقة مرة" اخرى. وبذلك فقد لعبت المعارضة البرلمانية في كردستان منذ اليوم الأول من اندلاع الثورة، دورا" مشبوها" وانتهازيا" تماما" على عكس الارادة الجماهيرية في كردستان وعلى عكس كل تطلعاتهم وأمانيهم الانسانية والثورية التي مثلتها سياسيا" قوى اليسار والعلمانية بكل جرأة واخلاص وقد جسد الدور الثوري لقوى البسار والعلمانية في مواقفهم وشعاراتهم وبرامجهم المتطابقة مع الارادة الجماهيرية بكل تطلعاتها وأمانيها الانسانية، وكذلك تجسد في لائحة اليسار التي أجمعت حولها كل الجماهير المتعطشة للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية اضافة الى اجماع كل القوى اليسارية والعلمانية حول تلك اللائحة في كردستان. وجدير بالذكر أنه على الرغم من التراجع السياسي التي فرضت على الجماهير والتي أجهضت الثورة من جرائها، إلا أنه نتيجة لقوة انتفاضة الجماهير الكردستانية في تلك المدة القصيرة فقد أصابت من جرائها السلطة والحزبين الحاكمين في كردستان بحالة من الارباك السياسي أدت الى زعزعة مكانتهم السياسية والاجتماعية داخل المجتمع الكردستاني وأفقدتهم هيبتهم وجبروتهم وعنجهيتهم وأصبح من المستحيل عليهم بعد الان أن يتمكنوا من التحكم كالسابق بالارادة الجماهيرية وببقية مقدراتهم المادية والاقتصادية، وعلى أعقابها توجهوا نحو الاصلاح وأطلقوا الكثير من الوعود والبرامج الاصلاحية، ولكنه على الرغم من تفاهة تلك الوعود والاصلاحات، إلا أنه مع ذلك فمن المحال تطبيقها في ظل نظام سياسي قومي فاسد ومعادي للجماهير وفي ظل نظام اجتماعي يتميز بالخضوع الاقتصادي والاستبداد السياسي تماما" كما أشرنا إليها أعلاه وهذه المسألة ثمرة لتلك الانتفاضة الثورية. كما وانه بفضل هذه الانتفاضة الثورية لجماهير كردستان قد تمت تعرية المعارضة البرلمانية من ردائهم السياسي المخادع والمضلل ومن شعاراتهم البراقة وكشفت تلك المعارضة البرلمانية الرجعية والانهزامية على حقيقتها أمام جماهير كردستان وبسبب ذلك يستحيل عليهم بعد الان أن يلعبوا أي دور سياسي داخل المجتمع الكردستان على عكس الارادة الجماهيرية وتطلعاتهم واهدافهم وامانيهم الانسانية لأنه اصبح الجماهير على دراية تامة بكل نواياهم السياسية الخبيثة والانتهازية ولا ينطلي عليهم بعد الان سياساتهم وبرامجهم ووعودهم المظللة والمخادعة. وقد أصبح واضحا" لدى عموم جماهير كردستان بأن المضمون السياسي والطبقي لتلك المعارضة الاتهازية لا يختلف كثيرا" عن السلطة والحزبين الحاكمين في كردستان. ولكنه إذا علمنا بأن ذلك الهجمة العسكري التي شنتها السلطة والحزبين الحاكمين على ميدان الحرية وكذلك الأجواء العسكرتارية التي رافقتها كان تهدف في المقام الأول الى ارغام المعارضة البرلمانية للركوع أمام السلطة والحزبين الحاكمين وبالتالي جرهم بشكل ذليل الى طاولة المفاوضات، فهذا ما هو يحصل حاليا" بالضبط في كردستان، وعلى أثرها تمكنت السلطة القومية الحاكمة من تفريق صفوف المعارضة وأصبح الحزبين الأسلاميتين في البرلمان الكردستاني جاهزين حتى للتوقيع حتى على ورقة بيضاء للسلطة في حين ان الطرف الوحيد الذي مازال يراوغ  ولم ينزل عند رغبة السلطة والحزبين الحاكمين هو حركة التغيير وان هذا الموقف الذي تبديه حركة التغيير ليس من قبيل صلابتهم المبدئية والسياسية، بل ليس هو سوى مناورة تكتيكية تسعى حركة التغيير من ورائها للحصول على أكبر سهم ممكن من السلطة والمكاسب السياسية. ولذلك فإن المعارضة البرلمانية في كردستان تتأرجح حاليا" بين ضغط التطلعات الجماهيرية وامانيهم الانسانية النبيلة من جهة وبين اغراء السلطة وارهابهم من جهة اخرى، وبهذا الشكل فان المعارضة البرلمانية في كردستان قد وصلت الى مفترق الطرق وعليهم أن يختاروا بين أمرين لا ثالث لهما، فاما البقاء بين صفوف الجماهير والنزول عند الرغبة الجماهيرية والدفاع عن المصالح والأماني والأهداف الإنسانية للجماهير! وهذا احتمال بعيد جدا" لأن المعارضة السياسية داخل برلمان كردستان ليست سوى معارضة برجوازية وان كانت ذات انتماءات فئوية مختلفة من نفس الطبقة الاجتماعية، وبطبيعة الحال، وكما أشرنا اليها فيما سبق، أن المعارضة البرجوازية في البلدان الخاضعة دون استثناء وعلى اختلاف توجهاتهم وتلاوينهم السياسية لا يسعون لشيء سوى المشاركة في السلطة السياسية مهما كان الثمن، وحتى عندما ينضمون الى صفوف المعارضة الجماهيرية فان الاعتراضات الجماهيرية ونضالهم ضد السلطة لا تشكل بالنسبة اليهم سوى حصان طروادة بغية تحقيق مصالحهم الحزبية والطبقية الضيقة، وفور تحقيق ذلك لهم فأنهم سيسيرون بالضرورة على عكس تيار النضال الجماهيري سواء انفردوا بالسلطة بعد ازاحة القوى البرجوازية الحاكمة من السلطة أو اذا تمكنوا بفعل قوة الاعتراضات الجماهيرية من الحصول على بعض المكاسب السياسية وسهم صغير في السلطة السياسية وسيكفون عن الأعمال الثورية المعادية للسلطة الحاكمة وسيقفون في الجبهة المعادية للجماهير ذلك لأن تطور العملية الثورية الى أبعد من ذلك ستشك خطرا" عليهم أيضا".