تصعيد ايراني

 

عمار السواس

Ammar_alswas@ymail.com

 

توغل قوات الحرس الثوري الإيرانية إلى داخل الأراضي العراقية واستمرار قصفها المدفعي للمناطق الحدودية في إقليم كردستان خللاً في المنظومة الدبلوماسية العراقية، وهو خلل بنيوي على ما يبدو، إذ أن الحكومة المركزية في... بغداد التي من المفترض أن تأخذ على عاتقها مهمة التصدي لهذا الاعتداء، لم يصدر عنها أي احتجاج رسمي على تكثيف العمليات العسكرية الإيرانية وتواصلها في العمق العراقي. أما لغة الأكراد السياسيّة، فهناك بضع عبارات مثيرة للفضول، لا يؤول تكرارها إلا إلى مضاعفة الفضول ذاك. فحيال الاعتداءات والانتهاكات الإيرانية المتواصلة داخل أراضي الإقليم، يتمسّك الجانب الكردي بعبارات باتت لكثرة تردادها في مثل هذه المناسبات من المأثورات الطريفة، وإن كان لدينا اليوم جوابان آتيان من الإقليم الكردي، على استمرار العمليات العسكرية الإيرانية هناك: الأول، وهو ما قاله مسؤول كردي وكشف فيه الرغبة العراقية في "إقامة علاقات جيدة مع كل البلدان المجاورة"، معرباً عن أمله بأن يتوطد الأمن في المناطق الحدودية، لكنه تحدث من موقع الحائر الذي لا يملك زمام موقفه فيلجأ إلى إنشاء متعالٍ من جهة، متقشّف ومتعفّف من أخرى، وينفي عن نفسه كلّ فعاليّة. والثاني ترافق مع هجوم صريح ومرتفع النبرة ضدّ القصف الإيراني هو رد أحد المسؤولين الأكراد الذي رأى أن هذا القصف ليس سوى محاولة لإضعاف وابتزاز الكرد، موضحاً أن ثمة بعداً سياسياً وراء استمراره، ولافتاً النظر إلى أن الدستور الإيراني لا يعترف بحقوق الكرد في إيران وحكومة طهران لا تريد وجود إقليم فيدرالي كردستاني قوي على حدوده، "لذلك فهم يحاولون الضغط علينا وابتزازنا". وفي إشارة لا تخلو من دلالة لاحظ هذا المسؤول أن الإيرانيين يريدون في نفس الوقت أن يظهرون لشعبهم أن المشكلات التي تعصف بإيران هي مشكلات خارجية، في محاولة لتصدير أزماتهم ومآزقهم الداخلية إلى ما وراء الحدود. وخلص إلى القول: "إن زيادة تلك الاعتداءات في الآونة الأخيرة يمثل محاولة إيرانية لإضعاف كردستان العراق بحجة وجود تنظيمات إرهابية وراء الحدود في ظل تغاضي الحكومة المركزية ببغداد عن الاعتداءات الإيرانية"، مبدياً استغرابه في ألا تقوم "الحكومة الفيدرالية في بغداد بإصدار احتجاج رسمي على هذا القصف على رغم أن الإقليم يعدّ جزءاً من العراق". هناك، إذن، خلل دبلوماسي ما، ولكن ما هي الأسباب التي تُصعّب على الحكومة المركزية العراقية مهمة على هذا القدر من السهولة؟ الأرجح أن الحكومة المركزية في بغداد لا تملك ترف الاستجابة للمطلب الكردي. فالهامش الواسع بين المفاوض الحكومي وبين الإقليم الذي يتولى دفع المخاطر عنه يُبقي لغته عصية على الإقناع. وعند هذا التفاوت في الخطابين تترنح مقولة التكامل بين المشروع الفيدرالي والدولة الاتحادية، إذ أن المقولة سقطت في هذا الامتحان الذي من المفترض أن يكون سهلاً. وبفعل استمرار العجز عن ايجاد صيغة علاقة بين مكونات الدولة الاتحادية، يبدو أن للطرف الإيراني "أجندته" الخاصة في التعامل مع الوضع الجديد الناشئ في العراق سواء في الحسابات أو المصالح أو حتى الهواجس. وفي هذا المنظور، يمكن الافتراض أن للتوغل العسكري الإيراني للمناطق الحدودية في إقليم كردستان لا يجد تفسيره سوى أن طهران تريد تفريغ أزمة تآكل شرعيتها في الداخل وأزمة ملفها النووي في الخارج بالجسد العراقي المنهك، مستفيدة من حالة "السيولة" التي يعيشها العراق في المرحلة الراهنة.

 

 فالسلوك الإيراني استفزازيّ بما لا يرقى إليه الشكّ، وربّما كانت حسابات طهران أنّها تستطيع، عبر الاستفزاز والتصلّب، تحسين مواقعها التفاوضيّة، فضلاً عن إسكات الانتقادات الداخليّة لسياساتها النوويّة. ذاك أن النجاح يُظهر تلك الانتقادات وأصحابها في مظهر البلهاء، بل في مظهر المتواطئين مع "أعداء إيران". إلا أن هناك ثمة من يعتقد أيضاً أن لدى طهران أوراقا استراتيجية رابحة وجاهزة للاستخدام للتأثير على المستقبل السياسي للعراق متمثلة في بعض "الرموز" في العملية السياسية التي لم تستطع أن تحافظ على مسافة ما عن سياسة طهران، بل ظلت تدور في فلك سياساتها لاقتناعات أيديولوجية أو ربما لمصالح متبادلة. إلا أن أقصى ما يعول عليه صانع القرار الإيراني هو أن يستدعي استمرار عدم الاستقرار الأمني في المناطق الحدودية من خلال اتباع استراتيجية "التصعيد" حيناً و"التهدئة" حيناً آخر في الوصول مع الطرف العراقي إلى مراجعة دقيقة وحساسة لمسألة ترسيم الحدود بين البلدين. وإذا كانت هذه هي صورة المواقف الإيرانية، فإن الأوضاع السائدة في العراق لن تتجه وبكبسة زر واحدة نحو صوغ اتفاقية لترسيم الحدود مع إيران شبيهة باتفاقية الجزائر في العام 1975؛ إذ تبقى لطهران قدرة، ولو محدودة، على عرقلة مسيرة الاستقرار السياسي في العراق وتأخير حصوله. فطهران يزعجها أي حل قريب للملف الحدودي بين البلدين، لا بل يلجمها كثيراً، لأنها بنت نفوذها على تأجيج النزاعات الحدودية في أي وقت تشاء ، فإذا ما انتفت هذه النزاعات انتفى نفوذها. وإذا كان لابد لطهران من أن تسير في اتجاه تحقيق حل ما للعراق، فإن ما تريده يجب أن يكون حسب شروطها أو على قياسها أو الحل الذي يعطيها الأوراق المطلوبة، ما يعني تكريس هيمنتها على القرار السياسي العراقي، وربما يجد العراقيون في موقفهم الموحد مبرراً كافياً لفرملة هذه التوجهات ........